همسة عتاب لجيل الثوار الذين شاخوا وما زالوا يعيشون على أمجاد الماضي

حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

قبل أيام ودعنا القائد الأخ المرحوم عبد الرحيم ملوح وقبله صائب عريقات وقبلهما حكم بلعاوي وقبلهم الطيب عبد الرحيم وعبد العزيز شاهين ونزار حبش والقائمة طويلة جدا ً ولا أريد أن أستطرد خشية أن أسهو عن ذكر أحد فيلومني الأصدقاء ، وأكتفي بالقول بأن القائمة تزداد طولا ً كل حين.

هؤلاء قامات وقادة مناضلين كان كل واحد منهم في يوم من الأيام تهتز الأرض تحت أقدامه ويُشار له بالبنان واليوم صاروا ذكريات.

هذه الثورة وهؤلاء من حملوا راياتها فإلى أين انتهت وما الذي حققته.

كانت ثورة حين كان المناضلون يمارسون العمل النضالي ثم انتهت الى الجلوس وراء المكاتب والإدمان على الميكروفونات والكاميرات بدلا ً من البنادق.

الثورة الفلسطينية طفلة مشاغبة تم التحايل عليها وهي في ريعان صباها ومن ثم سبيها وتدجينها وإدخالها الى حرم السلطان.

أعود بذاكرتي الى نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات. كانت هناك ثورة وكان للفلسطيني سطوة وهيبة واحترام لم يجرؤ القريب أو البعيد على المساس به ، وأشعل عواطف الثوار والثوريين في كل أنحاء العالم لدرجة أن الكثيرين ومن جنسيات مختلفة انضموا الى صفوف الثورة الفلسطينية عن قناعة بأنهم يقاتلون ضد الظلم والإمبريالية ولنصرة قضية التحرر باعتبارها قضية عالمية لا تقف عند حدود الجغرافيا ، وكان حلم الكثير من الصبايا في العالم أن تفوز الواحدة منهن بقلب مقاتل فلسطيني...تلك الشخصية الأسطورية..الفدائي.

ولكن وللأسف الشديد بدأ الميل والإنعطاف نحو الخيار السياسي منذ أواسط السبعينيات ، ومع ذلك فقد ظل وهج الثورة يشتعل وظلت فتح وفصائل المقاومة الأخرى تحمل السلاح في جنوب لبنان وتؤمن بالثورة والقتال حتى الاجتياح عام 1982 الذي سجل فيه المقاتل الفلسطيني ذروة البطولات العسكرية الأسطورية التي أذهلت العدو قبل الصديق . ولكن ولأسباب خارجة عن إرادة قيادته انتهى القتال بترحيل المقاتلين وإخماد نيران الثورة المسلحة التي لم يعد أمامها سوى البحث عن مدخل سياسي يضعها على الخريطة السياسية للمنطقة.

وإذ ليس المجال هنا لسرد تاريخ هذه الثورة المجيدة إلا أنني أردت أن أقول بأن هؤلاء الرفاق الذين نودعهم واحدا ً تلو الآخر هم في معظمهم ممن عاشوا العصر الذهبي للثورة ، حين كانت ثورة ، واستمرت حياتهم استمرارا للإرث النضالي الذي خلفته تلك الثورة.

وأعترف بأنني أشعر أحيانا بالإستفزاز حين أسمع أحدا ً يتحدث عن واقعنا اليوم تحت مسمى الثورة لأنه لم تعد هناك ثورة فلسطينية وإنما إرث ورثناه عن ثورة كانت وانطفأ وهجها وظل إرثها وتراثها ليعيش البعض على أمجاده.

فتح مثلا ً هي حركة عريقة عظيمة ذات إرث نضالي عظيم وضخم ومشرف ، ولكن فتح مثلها مثل كل الفصائل الأخرى أصبحت اليوم إرثا ً لا يستطيع أحد أن يعيبه أو ينتقص من قيمته ولكننا لا نستطيع أن نتعامل مع من ورثوا هذا الإرث بنفس القدر من الإحترام والإجلال للإرث ذاته. فبعض هؤلاء الورثة هم أشبه بمن ورث الملايين عن أب كافح وناضل وجد وكد ليحقق الملايين فجاء ورثته ليستولوا على عرق جبينه وينفقوه في الملاهي والنوادي الليلية.

معضلة الثورة الفلسطينية ، وبالرغم من أنها رفعت شعار الديمومة ، هي أنها تجمدت عند نقطة معينة وتمحورت حول أشخاص وليس حول قيم ومباديء يتعاقب من يحملونها دون أن يتخلوا عنها. فديمومة الثورة تعني التجدد المستمر فكيف يمكن أن نقول بأن فتح مثلا ً هي ديمومة طالما أن الأشخاص القائمين عليها منذ كانوا في عنفوان شبابهم شاخوا وانطفأ لهيب الثورة داخل نفوسهم وهم ما زالوا يصرون على الإمساك بالمقود وتوجيه دفة السفينة بأيد أرهقها الزمن وباتت الإرتعاش سمة مرافقة لها.

معضلة الثورة الفلسطينية هي إنعدام الديمقراطية الثورية وانعدام التجدد المتمثل في تعاقب الأجيال في حمل الراية مما خلق أجواء هي أشبه بالدفيئات التي تعشش تحتها الانتهازية والمصالح الفردية بعيدا جدا ً عن القيم والمباديء التي كانت الثورة تؤمن بها وتمثلها وتقاتل من أجلها حين كانت ثورة.

نحن نودع جيل ثوار الأمس واحدا ً تلو الآخر ولم يبق منهم إلا القليل القليل وهم على الطريق للحاق بمن رحلوا قبلهم لأن هذه هي سنة الحياة. ولكن علينا أن لا نخجل من القول بأن عتبنا على جيل الثوار الأوائل وبشكل خاص على من تبقى منهم على قيد الحياة ، هو أنهم لم يؤسسوا لثورة تتوارثها الأجيال وإنما أسسوا لإرث تتغنى به الأجيال القادمة وتتلذذ به كالأفيون دون أن تضيف إليه شيئا.

نحن لم نمارس الديمومة الثورية والحياة المتجددة والراية التي يتناقلها جيل بعد جيل لأننا لم نؤمن بالديمقراطية والمشاركة في تحمل المسؤولية وانتقالها من جيل الى جيل الى أن نصل الى الهدف.

وأكثر من ذلك فإننا حتى ونحن نحاول بناء جسم سياسي بديل للثورة أسميناه دولة وأسموه سلطة ، لم نحسن البناء ولم نؤمن بالديقراطية ومارسنا احتكار السلطة والنفوذ وتسخيرها لخدمة نزواتنا ومصالحنا الفردية فبقينا نعيش على هامش الحلم ..هامش التحرر..هامش الحياة.

وإلى أن نفهم بأن الحياة لا تقف عند شخص معين وأن التجدد هو أساس النجاح وتحقيق الهدف فإننا سنظل وللأسف الشديد ، في تراجع نحو الاندثار.

تحية لأرواح كل أولئك الذين كانوا في يوم من الأيام وهج الثورة ولهيبها ، من رحل منهم ومن يتأهب للرحيل ، وكلمة عتاب لهم ولأنفسنا : لماذا لم نتجدد..لماذا لم نحافظ على ديمومة الثورة...لماذا آثرنا احتكار الكرسي وسرنا وراء سراب المكاسب الوهمية