حذار من ان تتوه البوصلة الوطنية

حجم الخط

بقلم:د. باسم نعيم

 

القيادي في حركة حماس ووزير الصحة الأسبق

قرأت وسمعت الكثير في الايام الأخيرة حول اللغط الذي أحدثه تعميم ادارة الوعظ والإرشاد التابعة لوزارة الاوقاف في غزة بخصوص احتفالات أعياد الميلاد المجيد وما هو معروف بالانجليزية "بالكريسماس". واضح أن التعميم كتب بصيغة حمالة أوجه، ولم يكن الاخوة في الوزارة موفقين في ذلك للاسف، ولكنهم صدّروا أكثر من موقف لتوضيح مآلات هذا التعميم الداخلي وأهدافه، وأنّه قطعا لم يقصد الإساءة للعلاقة الراسخة والمتينة بين كل مكونات شعبنا الفلسطيني، وفي مقدمتهم المسلمين والمسيحيين، أو التضييق على احتفالاتهم وطقوسهم بمناسبة الاعياد، وتبع ذلك العديد من الأنشطة لتاكيد هذه المعاني السامية، فكانت الزيارة الى كنيسة دير اللاتين بغزة لتهنئة الاب جبرائيل رومانيلي بالسلامة بعد رحلة علاج خارج قطاع غزة، وشاركت فيها وزارة الاوقاف بوفد رفيع المستوى، وكانت من أجمل وأدفأ الزيارات التي شاركت فيها منذ سنوات.

اعتقدت أن هذا الحدث العابر قد تجاوزناه، وانتصرت روح الوحدة والتعايش ومعاني الأخوة والسلام على نزعات الفتنة أو دعوات الفرقة، ولكنني فوجئت بعدها بعدد من المقالات والاحداث يعيد نكأ الجراح وخلط الأوراق. لعل ذلك متوقعا في أي مجتمع بشري، يقوم على التعايش رغم الاختلاف، فهذه إرادة الله عز وجل "{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، ولكن ما استوقفني، بل وصدمني، أن تصدر بعض هذه المقالات والتصريحات، ليس عن أشخاص هامشيين أو معروفين بتطرفهم، بل عن قامات وطنية وشخصيات محترمة لها دورها المشهود في تعزيز الوحدة ومكانتها المحفوظة في مجتمعنا الفلسطيني، في كل مواقع تواجده في الداخل والشتات، من أمثال الأب عطا الله حنا والاب ابراهيم فلتس والمحامي المعروف جواد بولس. وهنا سأتوقف قليلا، لأهمية وخطورة ما نشره الاستاذ جواد في مقالة له في جريدة القدس يوم السبت 26-12-2020م.

أتفق معك استاذ جواد في معظم ما قلته في مقالك، واستشعرت جمال وألق الكلمات التي تصف فيها تاريخ الوجود المسيحي في فلسطين، سواءً في بعده الديني أو بعده الوطني، ونعتز كمسلمين بهذا التاريخ والتنوع، وأن فلسطين عنوانا مركزيا لاهم ديانتين على وجه الأرض. ولكن ما استوقفني حقا هو ربطك المجحف والظالم بين التطورات السلبية المؤلمة التي عاشها المجتمع المسيحي في فلسطين على مدار عقود في ظل الاستعمار الغربي والاحتلال الصهيوني، بظهور "حركات الاسلام السياسي"، حسب توصيفك، فقلت "لم تقتصر معاناة الفلسطينيين المسيحيين تاريخيًا على مواجهة ذينك العدوّين، الخارجي الاستعماري والاسرائيلي العنصري، بل بدأوا يعيشون، منذ أربعة عقود، تداعيات هواجس وجودية مستجدة وارهاصات حالة من التناقضات الحقيقية داخل مجتمعاتهم، وذلك بعد تنامي قوة بعض الحركات الاسلامية السياسية وتغلغل افكارها الدينية الاقصائية في مفاصل الحياة اليومية، مما دفع بأبناء الاقلية المسيحية الاصلانية الى فقدان الثقة بمستقبل كانت ستحميه وتؤمنه العباءة الفلسطينية الجامعة، وكي لا أفهم خطأ، فلقد بدأت مشكلة المسيحية المشرقية قبل نشوء هذه الحركات الاسلامية، لكنها تفاقمت مع زيادة قوتها وبسط سيادتها في بعض الدول العربية وفي قطاع غزة، ونتيجة لتصرفات بعض اجنحتها وفق مفاهيم عقائدية دلت على رفض قادتها لاحترام مبدأ تكاملية انساغ المجتمع الواحد واصرارها على فرض قوانين الشريعة الاسلامية وفق تفسيراتها الاصولية، على جميع المواطنين" –انتهى الاقتباس- .

كنت أتمنى ان تعزز أستاذ جواد هذا الاستنتاج المجحف وغير الموضوعي بأحداث أو كتابات لقادة الحركة الإسلامية في فلسطين وخاصة في قطاع غزة. فأنا ابن الحركة الاسلامية الأكبر في فلسطين، وتربيت في كنفها لأربعة عقود، وأتحدى أن تأتيني بقول أو موقف لقائد أو رمز من رموزها في غزة أو الضفة او الاراضي المحتلة عام ٤٨، بل حتى في المنطقة العربية، يؤكد ما ذهبت اليه من استنتاجات خطيرة. بل العكس هو الصحيح، فقد تربينا على مناهج هذه الحركة والمبنية على آيات القران الكريم وسنة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وفكر المؤسسين من أمثال الشيخ حسن البنا وفتاوى العلماء الكبار والرموز من أمثال الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين السابق. مناهج الحركة تعزز الوسطية والاعتدال والتعايش والرحمة وقبول الآخر، ولا نقول ذلك اجتهادا سياسيا ولا تكتيكا تنظيميا، بل نؤمن به عقيدة ونمارسه دين. ولعل أهم وأبرز مشايخنا وقادتنا هنا في فلسطين الشيخ الشهيد المؤسس أحمد ياسين، والذي تمتع بعلاقات طيبة وراسخة مع جيرانه المسيحيين في حي الزيتون، الحي الذي يوجد فيه المجمع الاسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي ومركز الحركة الاساس، الى جانب الكنيستين الاكبر ، الكنيسة الارثوذكسية وكنيسة دير اللاتين وكذلك المستشفى الاهلي العربي، المعمداني سابقاً. لم تنقطع العلاقات بيننا وبين أشقائنا المسيحيين في غزة طوال العقود الماضية، وعلى كل المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية والنقابية، ولعل تجربة الانتخابات في عام ٢٠٠٦ ومشاركة النائب كمال الطويل على قوائم حركة حماس، وقبله مشاركة الدكتور انطون شحيبر على قوائم الإسلاميين في انتخابات الجمعية الطبية العربية، وبعد ذلك مشاركة الوزير طنوس ابو عيطة في الحكومة التي شكلتها الحركة في عام ٢٠٠٦، ومشاركة د. خلود دعيبس في حكومة الوحدة الوطنية في ٢٠٠٧، وكلا الحكومتين برئاسة الاستاذ اسماعيل هنية رئيس حركة حماس، كله دليل على أن الامر يتجاوز العلاقات الشكلية البروتوكولية في المناسبات الرسمية، الى الالتحام الوطني على قاعدة الشراكة وحماية المصالح العليا. ولعل أحداث العدوان المتكرر على غزة في السنوات الاخيرة، كان رسالة وحدة وتماسك، بل والتحام، فوحدنا الالم، عندما لم يفرق الصاروخ الاسرائيلي بين مسلم ومسيحي، وكذلك وحدنا الامل، عندما فتحت الكنائس والمساجد من الكل للكل، تقاسموا الماء والخبز، وصلوا جميعا لله ان يرفع عنا البلاء ويفرج الكرب.

أما ربطك بين هجرة أشقائنا المسيحيين الأراضي الفلسطينية، بما فيها غزة، وبين مواقف وتصريحات حركات "الاسلام السياسي"، حسب تعبيرك، فأعتقد أنه إما يعكس مغالطة أو جهل بحقيقة الاسباب الدافعة لذلك. فعلى الاقل فيما أعرفه عن غزة، فان الظروف المأساوية خلال السنوات السابقة من احتلال مجرم وحصار جائر دفعت الكثيرين، وخاصة من جيل الشباب، للتفكير في الهجرة والبحث عن فرصة أفضل للحياة، وأنا شخصيا لا ألومهم على ذلك، فهذا حقهم، وتاريخيا لم تكن غزة المكان الافضل للبحث عن فرصة عمل، فشبابنا كانوا يذهبون للعمل في الدول العربية بعد التخرج من الجامعة، او للعمل داخل الخط الاخضر لغير الحاصلين على شهادات عليا. ولذلك هاجر في الفترة الماضية آلاف، من المسلمين والمسيحيين، ومن كل المشارب الاجتماعية والتخصصات المهنية. قد يكون اخواننا من المسيحيين أكثر قدرة على تحقيق هذا الهدف، لما يمتلكونه من امتدادات في الخارج او ظروف سفر أسهل ومؤهلات أفضل، أو حتى للزواج في ظل الفرص المحدودة في غزة. في ظل العدد المحدود للاسرة المسيحية في غزة تاريخيا، كان تأثير الهجرة على أعدادهم أوضح وأعمق. ولكن لا يمكن لأي كان أن يثبت أن حادثة هجرة واحدة كان سببها التمييز أو التحريض أو التهديد لا قدر الله، بل ان التصريحات المتكررة لرجال الدين المسيحيين في غزة، كالأب اليكسيوس والأب جبرائيل رومانيلي وقبلهم الاب مانويل مسلم تنفي هذه الادعاءات بالمطلق، وتؤكد العكس تماماً.

أما فيما يتعلق بقولك "على جميع الأحوال، لم يكن نأي كاتبي ذلك التعميم عن استعمال كلمة "الميلاد" واستبدالها في العنوان بكلمة "الكريسماس" مجرد سهوة عابرة، ولا يمكن اخراج نص التعميم المذكور عن سياقات الخطاب الشائع في أدبيات وفتاوى بعض تلك الحركات، فانتقاء اسم "الكريسماس" وليس "الميلاد" يقصد منه أيضًا افهام عامة الناس على ان المحتفلين بهذه المناسبة ليسوا "منّا" وهي أصلًا مناسبة غربية دخيلة"، فباختصار أؤكد لك انها سهوة عابرة وغير مقصودة، وكثير من المسيحيين، حتى في فلسطين، يستعملون هذه اللفظة ويهنئون بها بعضهم البعض.

قبل أختم لابد أن أؤكد على المعنى والهدف الاساس من كتابة هذا المقال، نحن مختلفون وسنبقى كذلك، وهذا يعتبر جزءاً أصيلا من قوتنا، ولكنّه الاختلاف الذي يعكس التنوع والقائم على التعاون والتعايش والتسامح وقبول الاخر كما هو، لكن الخطورة ليست عندما نسمع قولا غريبا او شاذا او مرفوضا من شخص هامشي عابر في المجتمع، ولكن الخطورة تكمن في أقوال وتصريحات تصدر عن شخصيات اعتبارية محترمة وقامات وطنية لها مكانتها، ولها جمهورها الذي يسمعها ويتأثر بها ويبني عليها قرارته وتوجهاته، فالحذر الحذر، وخاصة من الكبار، من الانزلاق الى مهاوي التجاذبات الدينية، فنحن لسنا في فائض من الوقت او القوة لنخلق ساحة مواجهة جديدة، وخاصة في وجود عدو يتربص بِنَا ويستهدفنا جميعا دون تمييز.

ختاما أتفق معك استاذ جواد فيما ختمت به مقالك أن المحافظة على ورعاية العنصر المسيحي في هويتنا الفلسطينية، ليس بمعناها الديني الضيق، هي مصلحة فلسطينية وطنية عليا، ولعل ما نشاهده في لبنان الشقيق، من تحويل الصراع السياسي، الى صراع ديني وطائفي، أكل الاخضر واليابس، واستنزف كل مقدرات الدولة وأغلق الافق لأي تقدم وازدهار وحياة كريمة، للأسف في معظمه تنفيذا لأجندات خارجية، هو درس قريب ومؤلم، يجب ان نتوقف عنده كثيرا.

كل عام وشعبنا بمسلميه ومسيحييه بألف ألف خير.