بعد عقد من اندلاع الربيع العربي لا تزال الثورة تجري

حجم الخط

هآرتس – بقلم تسفي برئيل

“صحيح أننا لم نحقق حتى الآن الحرية، لكننا على الاقل نستطيع أن نحلم بها ونتخيلها”، هذا ما قاله قبل ثلاث سنوات كينان رحماني، ناشط حقوق انسان سوري. هذا كان جوابه على الاستطلاع الذي اجراه موقع “رصيف 22” تحت عنوان “هل كان من الافضل أن لا يحدث الربيع العربي مطلقا”. في هذا الشهر نشرت “الغارديان” نتائج استطلاع شامل آخر أجراه بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة على اندلاع الثورة. ومن المشكوك فيه اذا كان رحماني سيجد فيه مؤيدون كثيرون لوجهة نظره.

​الربيع العربي حدث في ثماني دول هي مصر، تونس، ليبيا، اليمن، سوريا، العراق، السودان والجزائر؛ في جميع هذه الدول باستثناء مصر، اجاب اكثر من 50 في المئة من المستطلعين بأن وضعهم اليوم اسوأ مما كان قبله. في سوريا وليبيا واليمن، 60 – 75 في المئة من المستطلعين نادمين على اندلاع الثورة، وفي الدول الاخرى، 40 في المئة نادمين على اندلاعها. وعندما سئل المستطلعون هل يتوقعون مستقبل افضل لاولادهم، فقط 5 في المئة من المستطلعين في اليمن اجابوا بالايجاب. النسبة الاعلى من الاجابات الايجابية سجلت في مصر، 26 في المئة، وفي تونس، 22 في المئة.

​ولكن هل من الصحيح الحكم على هذه الثورات فقط استنادا الى انجازاتها، وبالاساس على اخفاقاتها، في تحقيق شعارات المتظاهرين – “الحياة والحرية وكرامة الانسان” – على بعد قصير هو عشر سنوات؟ هل صورة الوضع الحالي في الشرق الاوسط تنبع من تلك المظاهرات الضخمة التي اسقطت انظمة وخلقت تكتلات جديدة؟ وهل يمكن أن نحاكم الديمقراطية في الشرق الاوسط أو غيابها فقط استنادا الى معايير دولية أم هل يمكن فحصها بمقارنات محلية؟.

​البروفيسور مارك لينتس، الخبير في شؤون الشرق الاوسط في جامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة، يعرف جيدا المقولات المنتشرة في اوساط الخبراء والسياسيين التي بحسبها هذه الثورات فشلت فشلا ذريعا. في عدد من الدول التي شهدت هزة الثورات قام ديكتاتورات اسوأ من الذين تم اسقاطهم. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اعتبر ديكتاتور اسوأ بكثير من حسني مبارك، بشار الاسد ما زال يحكم سوريا حتى بعد أن قام بقتل مئات آلاف المواطنين، العراق لم يتم تأهيله حتى الآن منذ اسقاط صدام حسين، وبعد عشر سنوات على قتل معمر القذافي فان ليبيا غارقة في حرب اهلية قاسية. ولكن في مقال بعنوان “الانتفاضات العربية لم تنته بعد”، الذي نشر في العدد الاخير لمجلة “فورين بوليسي”، يقول لينتس إن “هذه الافتراضات هي فقط الافتراضات الاخيرة في سلسلة استنتاجات غير ناضجة، حيث أنه قبل العام 2011 معظم المحللين اعتبروا أن استقرار انظمة الحكام المستبدين هو أمر مفهوم ضمنا. هذا كان خطأ.

​“بعد الاطاحة بأربعة حكام، مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس ومعمر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، ترسخ تقدير يقول بأن المنطقة غرقت في موجة ديمقراطية لا يمكن وقفها. آخرون قدروا أن الثورات ستنتج عنها سيطرة حركات اسلامية”، كتب لينتس. “هذه التقديرات تبين أنها غير صحيحة”. وقد قال لينتس إن المطالبة بالديمقراطية كانت سلسلة من عدة طلبات طرحها المتظاهرون، وحقيقة أنه كان هناك اشخاص طغاة يجلسون على كرسي القيادة لا تدلل على فشل الثورات. وحسب رأيه، الثورات لم تنته بعد.

​اختبار الموجات الارتدادية

​مؤشر النجاح أو الفشل لا يمكن اختباره فقط بحسب معايير محلية أو أن يترسخ في فترة زمنية محددة. الثورات لم تبدأ في كانون الاول 2010 عندما احرق محمد بوعزيزي نفسه، وهو الشاب التونسي الذي تم تحطيم بسطته وبضاعته تمت بعثرتها من قبل قوات الشرطة (حيث قامت شرطية باهانته وصفعه على وجهه). ايضا في مصر الاشتعال بدأ قبل وقت طويل من الاحتفال بـ “يوم الشرطي” في 25 كانون الثاني 2011، الذي فيه تم تنظيم المظاهرات الكبيرة التي أدت في نهاية الامر الى استقالة حسني مبارك. الضغط على الزناد بدأ في 6 حزيران 2010 عند موت – الاكثر دقة قتل – خالد سعيد، وهو شاب مصري كان يجلس في مقهى للانترنت عندما جاء شرطيان من الشرطة السرية لاعتقاله، وقاما بضربه ضربا مبرحا، وضربوا رأسه بأبواب الحديد مرة تلو الاخرى الى أن لفظ أنفاسه. ولكن حتى هذين الحدثين المأساويين كانا فقط بداية عملية طويلة استمرت لسنوات.

​من ينظرون الثورات يقترحون اربع مراحل لتطور الثورات، بدايتها تكون بضائقة شديدة، تعم طبقات كثيرة في الدولة. هذه الضائقة ليس بالضرورة أن تكون ضائقة اقتصادية. فالمس الشديد بحقوق الانسان وكبح حرية التعبير وفقدان الثقة بالنظام السياسي وغياب القدرة الحقيقية على استبدال نظام الحكم بوسائل ديمقراطية وجهاز قضاء معطوب وفاسد وسلطات غير مقيدة معطاة للشرطة والمخابرات الداخلية، والتي تضاف اليها ضائقة اقتصادية وفقر وأجور تكفي لاسبوع وفجوة عميقة في الفرص بين أبناء الاثرياء والعائلات الفقيرة. كل ذلك هو الجمرات التي تنتظر تحولها الى نار كبيرة. عندما تتحول الضائقة الى قاسم مشترك للطبقات الفقيرة والطبقات الوسطى تنشأ مجموعة ضائقة ذات كتلة حاسمة.

​في المرحلة القادمة من شأن مجموعة الضائقة أن تعبر بشكل علني عن ضائقتها. اضرابات ومظاهرات محدودة وكتابة مقالات ومنشورات في الشبكات الاجتماعية وانتقاد ساخر وشعارات غرافيك حادة، تحدد مساحة الاحتجاج وتبدأ في تحديد طلبات الجمهور. هذه الاحتجاجات كانت في عدد من الدول العربية حتى قبل الربيع العربي. ففي مصر كانت عشرات المظاهرات والاضرابات الاحتجاجية طوال سنوات. وذات مرة كان هؤلاء عمال سكة الحديد ومرة اخرى عمال مصانع الاسمنت والحديد في مدينة المحلة الكبرى، وهي المنطقة الصناعية الكبيرة قرب القاهرة والتي هي دائما مغطاة بالدخان والغبار التي أدت الى أمراض في الرئات لسكان المكان وعمال المصانع انفسهم.

​مبارك كان الاكثر مرونة من بين هؤلاء الطغاة. فقد سمح لعدد من المظاهرات بأن تجري وسمح لصحف جديدة بأن تباع، لكنه لم يمنحها الرخص وفهم ضغوط الدول الغربية. في تونس وصلت القبضة الحديدية لزين العابدين بن علي الى امعاء الحواسيب الموجودة في المقاهي، التي استخدمها الشباب في الشبكات الاجتماعية. المعارضة، بالاساس المعارضة الدينية، تم اعتقالها وسجنها، وعدد من رؤسائها هاجروا الى خارج البلاد، ومواطنون تم اختطافهم والغرب صفق لزعيم يتحدث عدة لغات واعتبر غربي ومؤيد لامريكا.

​الاحتجاجات يمكن في هذه المرحلة أن تنتهي وأن يتم قمعها وأن تتوقف. ولكن في هذه الدول التي اندلعت فيها الثورات، الاحتجاج تحول الى تمرد حقيقي. وهو تمرد لم تتمكن قوات الامن واحيانا لم ترغب في التصادم معه. ويجب علينا تقدير درجة الضائقة وشعور اليأس والغضب كي نفهم كم هي الشجاعة المطلوبة من اجل أن تواجه بدون سلاح القوات المسلحة لهذه الانظمة. ولكن ايضا عندما يندلع التمرد فهو لا يضمن حدوث ثورة حقيقية – حتى لو تمت الاطاحة بالحاكم السابق أو تصفيته – التي ستجسد وتحقق كل طلبات المتظاهرين.

​الانتقال من حكم ديكتاتوري الى حكم ديمقراطي يحتاج الى تنظيم واستعداد سياسي يترجم الاحتجاج والتمرد الى اطار سياسي ديمقراطي، يحشو الميادين داخل مبنى البرلمان، والشعارات والمنشورات يحولها الى برنامج انتخابي. هنا انقسمت الدول طبقا لتقاليدها السياسية، وبنيتها الاقتصادية – الاجتماعية، ونوع العقد الذي كان سائدا بين النظام والشعب في كل واحدة منها. تونس عملت كما يبدو حسب النظرية. فقد أسست في الواقع نظام ديمقراطي وصاغت دستور ليبرالي وبدأت العمل بسرعة نسبية كدولة انتقلت من عهد الى عهد آخر. ومصر بدأت طريقها كدولة ديمقراطية تشق طريقها، التي فيها للمرة الاولى حركة الاخوان المسلمين حظيت بالشرعية ونجحت بسبب تنظيمها المتطور بالفوز في الانتخابات والفوز بالرئاسة. ليبيا، اليمن وسوريا تمزقت إربا. في ليبيا الزعيم معمر القذافي قتل على أيدي الجمهور، في اليمن تمت الاطاحة بالرئيس علي عبد الله وفي سوريا الرئيس بشار الاسد ما زال يجلس في قصر الرئاسة. ولا يوجد في أي دولة من هذه الدول نظام يمثل جميع السكان، ولا توجد حكومة حظيت بثقة الجمهور، والحرب الاهلية فيها ما زالت مستمرة.

​مثلما أن الثورات لا تندلع في اليوم الذي تحدده وسائل الاعلام، أو عندما تحظى احداث دراماتيكية بهالة وبصفة الصاعقة، ايضا نهايتها تكون عملية طويلة يمكن أن تستمر لسنوات. والسؤال الذي يجب فحصه عند حدوث تغييرات سياسية نتيجة لثورة اهلية هو هل هذه الثورات خلقت موجات ارتدادية طويلة المدى في الدول التي حدثت فيها، وهل يوجد لها أي تأثير يتجاوز الحدود الجغرافية. في هذا يكمن لب نجاح الثورات وحركات الاحتجاج.

اساس الخوف تم غرسه

​اذا اعتبر الرأي العام في السابق، أو “الشارع العربي”، كيان عديم القوة والمكانة، والذي يتم التحكم فيه بصورة مطلقة من قبل الانظمة، ويتم تحريكه بين حين وآخر حسب المصالح، ولكن بالتأكيد ليس بصورة يمكن أن تحدد طابع النظام، الثورات اثبتت أن الجمهور الغاضب يمكنه أن يقلب الامور رأسا على عقب. ففي عدة حالات قام الجمهور برمي الطفل مع مياه الاستحمام وحطم دول ودمرا النسيج الاجتماعي والسياسي فيها، وايضا دفعا ثمنا باهظا من الضحايا بالأرواح. ولكنه ايضا زرع أساس الخوف في الداخل، وحظي بسبب ذلك بمكانة سياسية حتى بعد أن فشل ولم ينجح في ترجمة قوته الى شراكة سياسية مهمة.

​في دول الثورة سارعت الانظمة الجديدة الى صياغة مواثيق ودساتير جديدة، على الاقل على الورق، فيها اعطيت مكانة محترمة لحقوق الانسان وحرية التعبير ومكانة النساء ومبدأ المساواة، التي حظيت بصفة “مباديء الثورة” أو “روح الثورة”. أي أنه في معظم الحالات الحديث يدور عن ضريبة كلامية تم سحقها من خلال حملات قمع وحشية للانظمة. ولكن لا يمكن تجاهل اعتراف الانظمة بضرورة اجراء اصلاحات طالما أنها لا تمس ببقاء النظام. في مصر، على سبيل المثال، تم سن قوانين متشددة ضد التحرش الجنسي والتنكيل بالنساء، وللمرة الاولى بعد عشرات السنين سمح الرئيس المصري ببناء كنائس جديدة. وفي السعودية التي لم تشهد موجة الثورات، النساء حصلن على الحق في قيادة السيارات والعمل في عشرات المهن التي كانت محظورة عليهن في السابق. الموجات الارتدادية للثورات تواصل الضرب. المظاهرات في الشوارع، التي سحقت في السابق بسرعة من قبل قوات الامن، أسقطت حكومات في العراق ولبنان والجزائر والسودان والاردن،بعد مرور سنوات على انتهاء ثورات الربيع العربي.

​ثورات الربيع العربي حطمت رؤية الغرب التقليدية التي بحسبها انظمة استبدادية وديكتاتورية قوية هي رهينة للهدوء والاستقرار، وبالاساس لدعم غير محدود للولايات المتحدة وسياستها. والسلوك الفاسد وسحق حقوق الانسان والقيود التي تم وضعها على حرية التعبير والاخفاقات الاقتصادية العميقة لها، هي التي أحدثت الثورات، التي عدد منها تطور الى حروب أهلية. الى جانب القول إن الثورات لم تحقق اهدافها، يمكن ايضا القول إن الانظمة الجديدة أو الانظمة التي اجتازت الثورات لم تنجح ايضا في الاثبات بأن النهج القديم افضل.

​الاسد، الناجي الاخير، بعد القتل الجماعي الذي ارتكبه، حبس بلاده في حرب دولية تشارك فيها روسيا وتركيا ودول الخليج، وبدرجة قليلة الولايات المتحدة ايضا. السعودية، التي اشترت الهدوء الداخلي بمدفوعات ضخمة، رفعت الى الحكم محمد بن سلمان الذي بأفعاله وسياسته قطع العلاقة التاريخية بين المملكة وبين الشعب الامريكي والكونغرس. اليمن هي وادي القتل الذي وجد على خلفية استخفاف النظام بمطالب الحوثيين والقطاعات الاخرى المضطهدة.

​مشاهد القتل والفوضى في عدد من الدول العربية التي تطورات بعد الثورات، تغرينا بالمقارنة بين الفترة التي كانت قبلها وبين الواقع الحالي. ولكن هذه المقارنة تطمس الحقيقة الاساسية في أن واقع الماضي الذي اعتبر جنة عدن من الاستقرار والهدوء، هو الذي ولد الثورات. مفهوم “الربيع العربي” فقد سحره، بالاساس في عيون الغرب التي ذرفت الدموع انفعالا ازاء الدمقرطة التي قريبا ستعم الدول العربية. وعندما خاب الأمل عاد الغرب الى الرؤى الاستشراقية المريحة، التي “فسرت” له الشرق “عديم الأمل”. هذه الرؤى التي لم تؤمن أبدا بأن ربيع عربي يمكن أن يحدث في أي يوم من الايام.