التطبيع مع إسرائيل: قصة الانقلاب الخليجي

حجم الخط

بقلم: فيكتور قطان


كما أن الحديث عن أن إسرائيل هي آخر معقل للاستعمار الأوروبي في الشرق الأوسط لم يعد يلقى قبولاً كبيراً بعد أن تمكنت إسرائيل بنجاح من إعادة تقديم نفسها باعتبارها بلداً رائداً في عالم التكنولوجيا تستحق أن تتخذ نموذجاً يحتذى، وخاصة في بلدان الخليج التي بدأت تشهد تراجعاً في الاقتصاد القائم على النفط.
أما الحكاية الأخرى فهي أحدث من سابقتها، حيث أخبرتني صديقة عربية انتقلت مؤخراً إلى سنغافورة من الخليج بأنها عندما كانت في دبي اشتركت في قائمة مراسلات تابعة لمنتدى الشرق الأوسط الذي يقوم عليه دانييل بايبس، ظناً منها أنه مركز أبحاث وتفكير متوازن حول المواضيع المتعلقة بالشرق الأوسط.
لكن أي مراقب مطلع، وأي فلسطيني يستحق هذه النسبة، يعرف أن منتدى الشرق الأوسط (والذي يصف مهمته بأنها تتمثل في حماية «القيم الغربية من التهديدات القادمة من الشرق الأوسط») أبعد ما يكون عن التوازن.
إلا أن بايبس نجح، وبشكل لا يكاد يصدق (هو ومجموعات مشابهة) في ترسيخ أقدامه وكسب الأتباع في العالم العربي، تلك المنطقة التي يهملها النشطاء الفلسطينيون.
فقط عندما تلقت صديقتي في العام الماضي رسالة إيميل من المنتدى تدعو إلى التبرع لمشروع النصر في إسرائيل دقت لديها نواقيس الإنذار. حينها، ألحت علي أن أشاهد الفيديو المصاحب للرسالة والذي يدور موضوعه حول أن الصراع سوف ينتهي فقط «عندما يستسلم الفلسطينيون».
كانت قد توهمت كما يتوهم كثير من عرب الخليج بأن بايبس يمثل الاعتدال. وهؤلاء ليسوا على اطلاع جيد بتفاصيل الصراع كما هو حال الفلسطينيين، ولذلك لا يمكنهم اكتشاف ما بين السطور من تحيزات وتحريفات يروج لها أشخاص يبدون في الظاهر كما لو كانوا أصحاب أجندات معقولة، ولا ينكشف أمرهم حتى يزال القناع الذي يغطي وجوههم كما حدث في حالة مشروع النصر الإسرائيلي.
ولكن النفوذ الذي تتمتع به الدعاية الإعلامية الإسرائيلية في العالم العربي ليس ناجماً فقط عن إخفاق الاستراتيجية الفلسطينية ولكن أيضاً، كما يبدو، عن نجاح هذه الدعاية الإسرائيلية في صياغة الطريقة التي ترى من خلالها بعض النخب الخليجية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
فقد غدت هذه الدعاية بالغة التعقيد، إذ تضخم رسالة إسرائيل عبر السوشال ميديا من خلال مؤثرين على تويتر ترعاهم الدولة، وحتى من خلال شبكة ذباب إلكتروني يتم تشغيلها من قبل مصادر موجودة داخل الإمارات العربية المتحدة.
كما تظهر على شكل نخب تتعارف وتتواصل فيما بينها اجتماعياً: ذلك الود الذي ينجم عن الاجتماع على الطعام في أماكن خاصة، والنقاشات التي تتم عبر مراكز البحث والتفكير، واللهجة المؤيدة لإسرائيل في كثير من الأوساط الإعلامية والترفيهية الرائجة، من السي إن إن إلى فوكس نيوز، ومن هوليوود إلى نيتفليكس.
ذلك التشويه المستمر لكيفية قراءتنا للواقع، والذي يعطي الأولوية للرواية الإسرائيلية على الرواية الفلسطينية، له تداعيات حقيقية في العالم. ولقد أثبت مؤخراً السياسيون ورواد الأعمال في الخليج مدى عمق ما تصل إليه هذه الأصوات النشاز.
خذ على سبيل المثال خطة ترامب التي تسمى «صفقة القرن»، والتي كتبت بطريقة لا يمكن لأحد من الزعماء الفلسطينيين القبول بها، حيث تجاوزت الخطة تقريباً كل واحد من الخطوط الحمر لدى الفلسطينيين.
لا يمكن لعربي على معرفة بجغرافيا القدس (إلا أن تكون هذه المعرفة مستمدة من خرائط غوغل) أن يصدق بأنه يمكن لعاصمة فلسطينية أن تقام في أبو ديس وأن تشتمل على الأماكن المقدسة لدى الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، داخل أو قريباً من مدينة القدس القديمة، والتي باتت مفصولة عنها بجدار إسمنتي ارتفاعه ثمانية أمتار.
ونفس معيار الجهل ينطبق على كيفية شرعنة الخطة للمستوطنات الإسرائيلية ولضم وادي الأردن واحتمال سحب الجنسية الإسرائيلية من عشرات الآلاف من الإسرائيليين العرب الذين يعيشون في عشر بلدات حدودية.
ومع ذلك لم يجد سفراء الإمارات العربية المتحدة والبحرين غضاضة في إقرار الخطة، بينما كانت المملكة العربية السعودية ومصر والأردن أكثر حكمة حين رفضت المشاركة في حفل إطلاق الخطة في البيت الأبيض.
عندما زار وفد تجاري إماراتي، مؤخراً، المسجد الأقصى طاردهم المصلون الفلسطينيون الغاضبون، فلدى الفلسطينيين ما يبرر سخطهم، فعدا إحساسهم بأن الإماراتيين غدروا بهم، وتارة أخرى يتجلى هنا جهل الخليجيين، أو لا مبالاتهم، هناك مدخل خاص لكبار الشخصيات من العرب، هو بوابة الأسباط، والتي تشرف عليها إدارة الأوقاف، بينما هناك تسع بوابات أخرى لاستخدام المصلين المسلمين.
إلا أن الوفد الإماراتي دخل إلى المسجد برفقة الشرطة الإسرائيلية من البوابة الوحيدة المخصصة لغير المسلمين، والتي يشرف عليها الإسرائيليون والتي تسبب كثيراً من الاحتكاك بين إسرائيل والأردن.
لربما ضلل الإسرائيليون ضيوفهم من الإماراتيين، ولكن كان ينبغي عليهم أن يحفظوا درسهم جيداً قبل المجيء.
فالقدس، وعلى الرغم مما يبدو في الظاهر، تظل مدينة محتلة، حتى أن معظم الفلسطينيين، بما في ذلك أهل غزة والضفة الغربية، لا يمكنهم زيارة المسجد فيها.
لعل أعجب خطأ خليجي ينم عن سوء تقدير هو ذلك الذي وقع عندما صرح وزير التجارة البحريني أن المملكة لن تميز بين المنتجات المستوردة، سواء أنتجت في إسرائيل أو في المستوطنات داخل الضفة الغربية المحتلة أو الجولان المحتل. كان ذلك خطأ فظيعاً ألجأ المنامة فيما بعد إلى التراجع عنه.
لا حاجة لاتهام البحرينيين بالخبث عندما يتضح دون أدنى لبس أن بعض زعماء الخليج في واقع الأمر لا يعرفون ما الذي يفعلونه.
لكن أسوأ تداعيات التطبيع على الإطلاق هي دوره في إضفاء الشرعية على اليمين الإسرائيلي. لك أن تتصور الكم الهائل من الصحافيين اليمينيين ومجموعات المستوطنين الذين يتوافدون على دبي بأعداد قياسية.
ثم هناك الصفقات التجارية المشبوهة، ناهيك عن ذلك العضو في العائلة الحاكمة في الإمارات الذي اشترى حصة في أكثر أندية كرة القدم يمينية وعنصرية في إسرائيل، بيتار إسرائيل، والذي يعرف برفضه مشاركة اللاعبين العرب.
وغني عن القول إنه من المؤذي حقاً أن يساهم التطبيع في إعلاء مكانة واحد من أفسد السياسيين في تاريخ إسرائيل. فأياً كان رأيك في سياساتهما، من المؤكد أن نتنياهو ليس إسحق رابين أو مناحيم بيغن، فقد كانت لديهما على الأقل نزاهة.
أنا مع «التطبيع» لو أن التطبيع يعني إقامة دولتين مستقلتين تعيشان في سلام جنباً إلى جنب ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، تماماً كما تنص على ذلك مبادرة السلام العربية التي استشهد بها الأمير السعودي تركي الفيصل في حديثه.
في الوقت ذاته يجب على الفلسطينيين الاعتراف بمدى إخفاق رسالتهم في طمأنة قلوب أهل الخليج، وخاصة في أوساط النخب الحاكمة، منذ ما قبل الربيع العربي.
من الواجب على الفلسطينيين مضاعفة الجهود لبناء ائتلاف جديد لا تتكرر فيه الانقسامات القائمة في العالم العربي، يتشكل من الحكومات الملتزمة بالتوصل إلى حل عادل للصراع. وعليهم إيجاد طريقة للترويج لقضيتهم تجد قبولاً لدى الأجيال الجديدة في العالم العربي.
هذا أمر في غاية الأهمية؛ لأنه حتى لو تغلبت عليهم تل أبيب وأبوظبي بما أوتيَتا من إمكانيات، فلا يمكن للفلسطينيين أن يقعدوا عن العمل ويقبلوا بمشروع إسرائيل الكبرى أو أن يستسلموا في وجه السطوة الإسرائيلية الخليجية.

عن «هآرتس»