قبل أن تفتي

حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

في كل يوم تظهر في وسائل الإعلام قضية جديدة، وغالباً ما تكون مثيرة للجدل، وتنقسم الآراء حولها، قد تكون قضية سياسية، أو وطنية، أو صحية، أو حالة فساد، أو وفاة شخص، أو خبر معين.. المهم أن الجميع يشارك بقوة، كل شخص يدلي بدلوه، وهذا حق طبيعي لكل إنسان.. ولكن قبل أن تتحفنا برأيك السديد، وتعطي حكمك القاطع المانع: اسأل نفسك الأسئلة التالية:
إذا كان خبراً، هل تأكدت من صحته؟ هل اطلعت على وجهة النظر المقابلة أم اكتفيت بمصدر واحد؟
على الأرجح أنك سارعت بإعطاء رأيك، دون تمحيص!
حسناً، بعد أن عرفت أن الخبر الذي نقلته عبارة عن إشاعة مفبركة، هل تراجعت عن رأيك؟ هل أنّبك ضميرك؟ وبعد أن عرفت أنك تسرعت في الحكم، أو ظلمت إنساناً بريئاً، هل ندمت على فعلتك؟ هل أدركت أنك لم تكن سوى بوق، وببغاء؟
إذا كانت القضية المطروحة شائكة، وتنطوي على خلاف كبير، هل اطلعت على التفاصيل؟ هل استمعت لوجهات نظر الفرقاء بحيادية؟ هل تأنيت قبل إصدار حكمك؟ هل اطلعت على كافة المعطيات والمعلومات؟ هل تسرب إليك الشك ولو لثانية أن مصدر المعلومات قد يكون مضللاً؟
إذا كانت مسألة صحية، أو بيئية، أو علمية.. هل أنت متخصص؟ طبيب؟ خبير؟ مهندس؟ هل قرأت ما يكفي من الكتب والمقالات وشاهدت ما يكفي من الأفلام الوثائقية التي تناولت المسألة؟
أيضاً، على الأرجح الإجابة لا.. ومع ذلك أتحفتنا بتصريح ناري!
إذا كان الخلاف على شخص متوفى، وهل هو من أهل الجنة، أم مصيره النار؟ وهل يجوز الترحم عليه، أم لا يجوز؟ هل صارت رحمة الله بين يديك؟
إذا كانت القضية وطنية، تتعلق بالصراع، وأشكال المواجهة.. هل سبق أن ساهمت في النضال، ولو بقدر بسيط؟ هل أنت قائد عسكري، أم خبير إستراتيجي؟ هل أنت في الميدان، أم في غرفة آمنة خلف الكيبورد؟
إذا كان الخلاف حول مسألة سياسية.. هل أنت محلل سياسي؟ هل تتابع الأخبار والجرائد باستمرار؟ هل تمتلك خلفية كافية عن الموضوع؟ هل أيدت المنظّر الفلاني، فقط لأنه من حزبك ومن جماعتك؟ ورفضت المنظّر الآخر جملة وتفصيلاً لأنه من حزب خصومك، وتفكيره لا يشبه تفكيرك؟
إذا كانت القضية فكرية، فلسفية.. هل أنت متعمق في الموضوع؟ لماذا تفترض أنك في الجهة الصح، وغيرك في الجهة الخطأ؟ لماذا أنت مقتنع بأنك على صواب؟ ومن أين أتيت بهذا اليقين؟ هل شككت ولو للحظة أنك على خطأ؟
إذا كانت القضية دينية.. هل تفترض أنك لمجرد انتمائك لهذا الدين، أو لتلك الطائفة أنك على الحق المبين؟ هل توصلت إلى ذلك بعقلك وذكائك، أم بالوراثة والتلقين؟ هل تعرف شيئاً عن الأديان الأخرى؟ هل تعاملت مع أحد أتباع تلك الديانات؟ هل قرأت كتبهم؟ من فوّضك للتحدث باسم الدين؟ لماذا لا تتواضع وتقول: هذه وجهة نطري، وحسب؟ لماذا تعتقد أنك وحدك دون الآخرين قد أنابك الله للتحدث باسمه، وللدفاع عنه؟
إذا كانت القضية أخلاقية.. لماذا تفترض تلقائياً أنك على خلق عظيم وأنك ملاك ولكن تنقصك أجنحة؟ من جعلك حارساً على الفضيلة؟ هل الأخلاق على مقاسك وحدك؟ وعندما تقول: هذا يتنافى مع أخلاقنا وقيم مجتمعنا، ومع تراثنا، وديننا.. من سمح لك باستخدام نون التمليك، لتصبح مالكاً للتراث والأخلاق؟ وقيّماً على المجتمع والناس؟ من أنت لتقول لنا ما يجب علينا فعله، وما لا يجب فعله؟
إذا كانت القضية تتعلق بكشف حالة فساد.. طبعا ستثور وتغضب، ولكن هل غضبك لأنك فقير ولأن المتهم بالفساد من خصومك وهو غالباً من الطبقة الثرية التي تحلم أن تكون منها يوماً ما، أم لأنك عاجز أن تكون فاسداً، ولم تتح لك الفرصة ولأنك لم تنل حظك من الغنيمة، أم أنت معترض على الفساد بحد ذاته؟ فإذا كنت معترضاً على الفساد نفسه، ألا تمارس أشكالاً عديدة من الفساد، ولكنك تعتبرها بسيطة، ومبررة؟
إذا كانت المسألة تتعلق بفيلم، أو لوحة، أو رواية، أو أي نوع من أنواع الأدب والفنون.. هل أصبحت فجأة خبيراً في السينما، والفن التشكيلي، والنقد، والمسرح؟ أم أنك تُخضع الفنون والآداب لمزاجك وذائقتك وحدود فهمك؟
عند وقوع حدثٍ ما، تبادر للإعلان عنه.. هل أنت مراسل صحافي؟ هل تعتقد أن الناس يترقبون أخبارك بفارغ الصبر؟ وإذا كنت صحافياً، هل السبق الصحافي أهم من أخلاقيات المهنة؟ هل سيل «اللايكات» التي تنتظره أهم من تحري الدقة؟
وعندما تسارع في التعليق، وتبدأ بتصنيف الناس، وإطلاق الأحكام.. هل طلب أحد رأيك؟ هل تحريت الصدق والعدل؟ ولماذا تفترض أنك بريء ونزيه وبطل وحكيم.. والآخرين خونة، وجبناء، ومتخلفين.. فقط لمجرد اختلافك معهم في الرأي! أو في الانتماء الطائفي! أو لأن الموقف لم يعجبك! ولم يتطابق مع مسطرتك الفكرية، ومع معاييرك للشرف والأخلاق؟!
هل من حقك التكفير والتخوين؟ ألا تدرك أن الشتم والردح إنما يدلان على ضحالة في الفهم، وعجز عن الرد.. وقبل ذلك على قلة تربية وسوء أخلاق؟!
قبل أن تصدر حكمك على أي قضية.. هل فكرت قليلاً، أم تعتقد أنك فكرت؟ يقول علماء النفس: إن أكثر من 95% من الحالات التي يتعامل معها الإنسان، يفكر فيها بعاطفته، وغرائزه فقط، ومن النادر جداً أن يفكر بعقله.. التفكير الحقيقي يتطلب جهداً مضنياً، وما يشمله من تذكر، ومقارنات، ونقد، وتشكيك، وربط، وإعادة بناء، وتأكد.. فهل قمت بذلك، أم استجبت تلقائياً لغرائزك، وميولك، وحكمت بناء على المعايير السائدة والمفروضة، وقرأت ما كان مسطوراً في دماغك، من كليشيهات، وعبارات جاهزة، وأحكام مسبقة؟
وطالما أنك مُفتٍ، وخبير، وعالم، وحكيم، ووصيّ على المجتمع، ومثال للشرف والأخلاق.. اتق الله قليلاً وحكّم ضميرك وعقلك قبل أن تتكرم علينا بطلتك البهية.