أميركا بعد ترامب

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

يبدو أن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن ورث تركة صعبة من سلفه دونالد ترامب الذي لا يزال يتفاعل سلباً حتى هذه اللحظة مع إجراءات عزله من قبل الحزب الديمقراطي، وفي ذات الوقت يحرك قاعدته الجماهيرية للتأثير على سير الانتقال السلمي للسلطة يوم الأربعاء القادم.
ترامب قرر عدم المشاركة في حفل تنصيب بايدن ونقل السلطة إليه، وهو قرار غير موفق ويُحرّض بشكل أو بآخر المجتمع الأميركي على العصيان.
ماذا فعل الرئيس المنتهية ولايته سوى صب الزيت على النار وتقسيم المجتمع الأميركي وسط جائحة «كورونا» التي تفتك به يوماً بعد يوم.
ربما أحد المقربين من ترامب أفشى له سراً بأنه سينجح في الانتخابات العامة وسيحقق الفوز العظيم، ما دفعه للغرور وعدم الانسحاب من المعركة الانتخابية حتى بعد إعلان النتائج وخسارته بقوة أمام منافسه بايدن، ويجوز أن ترامب لا يزال متمسكاً بموقفه إزاء أحقيته في الفوز.
الأولويات الأميركية تبدلت في مرحلة ما بعد الانتخابات، ذلك أنه يفترض بالرئيس المنتهية ولايته التركيز على ملف «كورونا» الذي يحصد الآلاف من الأرواح يومياً ويضع قوة وعظمة الولايات المتحدة على المحك، لكن كل ما فعله ترامب في الآونة الأخيرة هو خلق حالة من الإرباك في المشهد السياسي الداخلي.
نتائج سياسات ترامب أن انقسم الحزب الجمهوري على حاله، بين مؤيد لقرارات توبيخ الرئيس على خلفية أحداث واشنطن، وبين معارض لمثل هذه القرارات ومشجع لترامب على التمسك بمسألة تزوير الانتخابات، وبين هذا الانقسام على مستوى الحزب الجمهوري، ثمة انقسام آخر في الشارع الأميركي.
من المستفيد ومن الخاسر من ذلك؟ بالتأكيد هناك خاسر ورابح من هذا الوضع، إذ إن ترامب هو أكبر الخاسرين في هذه المعادلة ومعه الحزب الجمهوري كذلك، والمجتمع الأميركي أكبر خاسر من هذا التناحر السياسي، لأنه مجتمع قائم على التعددية السياسية والعرقية.
في كل الأحوال لم يكن المجتمع الأميركي بتنوعه وثقافاته على مسطرة واحدة من الانضباط العام، خصوصاً أن هناك أصواتاً عالية تشجع على اقتناء السلاح، وفي مقدمتهم ترامب الذي دعا في أكثر من مناسبة إلى الاحتفاظ به، وأسهم بشكل أو بآخر بتعميق الخلاف الطائفي بين مجتمع البيض والسود.
أحداث واشنطن تُبيّن إلى حدٍّ كبير الاختلال الكبير في النسيج الاجتماعي الأميركي ومسألة احترام وقبول الآخر، وشخص مثل ترامب يمكنه أن يعقد الأمور أكثر فأكثر إذا ما ظل يغذي جمهوره بخطابات مبطنة تحضّهم على العصيان وعدم احترام نتائج الانتخابات.
أمام بايدن مهمة كبيرة تتصل بضبط حركة الإيقاع الداخلي في المجتمع، من حيث تخفيف تداعيات الانقسام التي خلّفها ترامب، ومن بين ذلك مخالفة العديد من القرارات التي سبق أن أقرّها الأخير وهي تمس قضايا جوهرية مرتبطة بالهجرة والعمالة والنظام الصحي وخلاف ذلك.
أكبر مستفيد من سياسات ترامب هو الحزب الديمقراطي الذي حافظ على قوته في مجلس النواب، وتفوق على غريمه التقليدي الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، وهو الآن الحزب المسيطر على مفاصل الدولة، وبالتالي لم يكن ليحقق مثل هذه النتائج لولا أن ترامب استعجله في الوصول إليها.
الآن كل أنظار العالم على ما سيحدث في بحر الأسبوع المقبل من تداعيات قد تمس الديمقراطية الأميركية، لأن ما يجري في الولايات المتحدة قد ينعكس على الكثير من الدول وأحزابها تحديداً التي تقوى ويشتد عودها بمؤازرة حلفائها من الأحزاب التي تربطها بها نفس الأفكار والمعتقدات.
الرأي والرأي الآخر ظاهرة صحية في المجتمعات المتحضرة، لكن ترامب لم يستقر بهذه القاعدة عند حدود وجهات النظر، وإنما تجاوزها بافتعال أزمة داخلية للتأثير على مجرى الانتخابات، والنتيجة أنه فشل في مشروعه وزاد من انقسام المجتمع الأميركي.
لا عجب من انقلاب حلفاء ترامب من الجمهوريين عليه، ولا عجب أن تنقسم قاعدته الجماهيرية بين مؤيد ومعارض، ففي نهاية المطاف إذا خرج من هذه الأزمة دون حساب، فإن التاريخ سيسجل أنه سحب البلاد إلى انقسام فوق الانقسام المجتمعي التي هي عليه، وأنه الرئيس الأكثر جدلاً بين أسلافه.
ستبقى أميركا قوية بعد ترامب، لأنه ليس الوحيد الذي يدير البلاد وإنما هناك جيوش من المؤسسات والمسؤولين الذين يشتركون في صناعة القرار، وما يميز هذه الأميركا ويجعلها بالفعل قوية كما هي الآن، أن الرئيس يتعرض للمساءلة والمحاسبة ولا يلتزم بالسلطة إلى أبد الآبدين أو حتى إشعار آخر.