الانتخابات الفلسطينية: قراءة عابرة لعقل خالد مشعل!!

حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

 

 وأنا أتابع مجريات تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن على شاشة (CNN)، لفت نظري خطابه وهو يتحدث عن الوحدة وجمع الشمل، وخططه القادمة لإصلاح أوضاع البلاد الداخلية، لإستعادة قوة أمريكا وهيبتها، بعدما مزَّقت الفرقة والخلافات نسيجها الاجتماعي وأصابته بالتهتك، واستشرت بين المواطنين حالة من العداء والكراهية، وتعاظمت مظاهر العنصرية تجاه الآخرين من غير ذوي العرق الأبيض، نتيجة للاصطفافات الحزبية والتنازع على كرسي الرئاسة، في سريالية صدمت العالم وديمقراطياته التي تحبو وتلهو في الحضن الأمريكي!!    

للحظة ذهب خيالي بعيداً لمشهد ساحتنا الفلسطينية، ومن يا تري في هذه الساحة يمتلك تقديم مثل هذا الخطاب في نبرته الوطنية والإنسانية، وبهذا الزخم العاطفي والأخلاقي والسياسي العابر للحزبيات والعرقيات، الخطاب الذي يُقدِّم مصلحة البلاد فوق مصلحة الحزب أو التنظيم، ويشكل بعمق الرؤية والإحساس بالمسؤولية الوطنية حاضنةً للكل الفلسطيني، وقاسماً مشتركاً لكل ما يتدافع فيه من قراءات وقرارات تجاه الآخر وتنافضاته السياسية والأيدولوجية.

لقد تأملت ما جرى على طول سنوات محنتنا الوطنية، التي ألمَّت بشعبنا منذ يونيو 2007 وحتى الآن، وحاولت أن أتبين رصيد بعض الأسماء والشخصيات القيادية، التي يمكن التعويل عليها لتحقيق حالة إجماع وطني وسبيلِ خلاص لشعبنا وقضيتنا، وتُخرجنا مما نحن فيه من ورطة وفراغ  سياسي!! لقد وجدت أن هناك ثلاث أو أربع شخصيات تشي مسيرتها النضالية وانفتاحها على الآخر، وتواصلها مع الجميع بالغرض المطلوب.

ولكن؛ لأن قضيتنا لها عمق عربي وإسلامي نحن في أمس الحاجة إليه، وخاصة في هذه المرحلة، كان ترشيحي للأستاذ خالد مشعل، والذي كانت حواراته الأخيرة تلقى القبول لدى الجميع، ويمكن أن تمثل "الترياق" السياسي والاجتماعي لإنتشالنا من حالة التيه والتخبط وشظف العيش التي نحن عليها اليوم.

قراءة في خريطة الانتخابات     

نعم؛ الكلُّ اليوم يتجهز للإنتخابات التشريعية في مايو القادم؛ لأن ما يلوح في الأفق يوحي للبعض أنها ستكون طوق نجاة للكل الفلسطيني، وهي ضرورة وطنية -بلا شكّ- لتجديد الشرعيات وتهدئة الأوضاع السياسية، وفرصة للخروج من مستنقع التهميش ومأزق الانقسام والعبثية السياسية.

من نافلة القول، إن فتح وحماس هما بالدرجة الأولى طرفا الانقسام، وبينهما -منذ سنوات- ما صنع الحداد، ولكنهما في الوقت نفسه هما الفصيلان الأهم في الساحة الفلسطينية، من حيث المكانة والتاريخ والتضحيات والكوادر البشرية وأعداد المراكز والمقرات والمؤسسات والجمعيات الإغاثية والتربوية، وأمامهما –بلا شكٍّ- تحديات أكبر من إمكانيات وقدرات أيٍّ منهما. ولذلك، يتسرب الكثير من الكلام حول فرص دخول الانتخابات ضمن قائمة مشتركة، وإن كان هذا الخيار ليس بلا مخاطر تنظيمية أو أضرار، حيث إن حالة التناجي داخل أروقة كل تنظيم تتعالى وتيرتها بالرفض والاحتجاج، ولكنها بالتأكيد ستتراجع مع النقاشات الداخلية وطرح الحقائق والأخطار ليسود منطق "الله غالب" مع الأيام.

إن محاولة استشراف ما يدور في رأس قيادات كل من فتح وحماس حول هذا الخيار في سياق حسابات السياسة القائمة على اعتبارات المصالح، والتي غالباً ما تتراجع معها وتتحرك الكثير من المفاهيم التي تخص القيم والمبادئ، إذ إن السياسة هي درجة احتراق الأيدولوجيا، وهي تفرض على الأطراف التوافق ضمن فضاءات واسعة من المصالح والاستراتيجيات.

الكلُّ اليوم، ومن خلال المنصَّات الإعلامية والديوانيات ومنابر الحوار، يدلي بدلوه، ويجادل في صحة هذه الخطوة أو خطئها، وهل ستمثل رافعة وطنية أو سلماً آيلاً للسقوط؟!

لا شكَّ أن أكثر من تحدثوا من قيادة حماس كان زعيم الحركة خالد مشعل، والذي قدَّم من خلال حواراته في الشهور الأخيرة أفكاراً للخلاص الوطني، وهي في مجملها تعبر عن موقف سياسي يرسم طريقاً يمكن أن تتجلى فيه الشراكة السياسية ضمن تفاهمات (أنا وأنت) وقواعد التوافق الوطني داخل الساحة الفلسطينية.

نعم؛ سنشهد في الأيام والأسابيع والشهور القادمة إطلالات تحريرية تستقريء خريطة التحركات والاتصالات بين الفصائل والتنظيمات، وستظهر الكثير من أصوات الإسلاميين لتدلي برأيها، بعدما شبَّ الكثير من نخب هذا التيار على الطوق وصارت لهم منابر يتواصلون من خلالها مع قواعد عريضة من المناصرين والمؤيدين، ولعل الفضل في ذلك يعود للقائد الذي منح الجرأة للآخرين يوم خرج قائلاً: لقد أخطأنا!! وأعاد ترتيب الحقوق في الساحة الفلسطينية بالاعتراف لشركاء الوطن بنضالاتهم وصفحات تاريخهم وتضحياتهم، وأن عملية التحرير هي مسؤولية تقع على عاتق الجميع، وأن مشروعنا الوطني يحتاج للكل الفلسطيني، وأن النصر معقودة نواصيه بوحدة هذا الكل، وفق رؤية تجسدها تلك المقولة الخالدة: "الوطن.. نحرره معاً ونبنيه معاً"، و"شركاء في الدم شركاء في القرار".

لعلي لا أختلف كثيراً عما ذهب إليه د. إبراهيم ماضي؛ ابن الحركة الإسلامية من تشخيص، حول القائمة المشتركة والرئيس التوافقي، حين كتب في تغريدة له: "يبدو أن خيار القائمة المشتركة والرئيس التوافقي مطروح وبقوة كخيار توافقي في الانتخابات القادمة. السؤال الذي يفرض نفسه: ما هو شكل البرنامج لتلك القائمة؛ هل هو برنامج التغيير والإصلاح أم برنامج وثيقة الأسري أم سيكون برنامج م.ت.ف، والتي لم يتم إعادة بنائها بعد ؟! هذه أسئلة مطروحة للنقاش، ولكن الأهم: كيف يمكن أن تُقنع الجمهور العريض بانتخاب تلك القائمة،  والذي عاني المر خلال سنوات الإنقسام حصاراً وظلماً وقطع رواتب في غزة، وتنسيقاً أمنياً مع الاحتلال وملاحقةً واعتقالاً في الضفة!! بهذا البرنامج، فإن السؤال الأصعب: كيف سيُقنع الحزبان الكبيران قواعدهما بانتخاب تلك القائمة". ويضيف د ماضي: أنا علي قناعة، ونتيجة للتثقيف الداخلي الأحادي  الذي لا يقبل الآخر،  فإن جزءاً كبيراً من قواعد الحزبين لن يقتنع بذلك؛ إما امتناعاً عن التصويت وعدم المشاركة، وإما أن يخرجوا للتصويت، ولكن  لقوائم  أخرى، وهذا ما اعتقده" .

اليوم، نحن أمام واقعٍ مازوم، وهناك محاولة للخروج من مربع الانقسام، ومن الواضح أن من يهندسها يريد أن يضمن فوزاً لا يخرج كسبه من بين يديه، حيث إن الرئيس أبو مازن لن يغامر بالذهاب للانتخابات منفرداً في منافسة قد لا تزيد حظوظه فيها عن 20-25%، وكذلك الحال بالنسبة لحركة حماس، ولذلك لن تكون هناك فرصة لأيٍّ منهما لتشكيل الحكومة دون الاستعانة بشراكة الآخر. أما باقي الفصائل، فإن التيار الثالث والرابع المرشحان لفرض حضورهما كمنافس هما تلك القائمة التي سيشكلها التيار الإصلاحي -بحرفية وذكاء- من تحالفات وطنية واسعة من اليسار والمستقلين، وكذلك قائمة (وطن) التي شكلها د. عبد الستار قاسم وحسن خريشة كحاضنة للمستقلين من الشخصيات الوطنية، وكل من هم في حالة من الغضب وخارج دائرة فتح/ الرئيس وحماس. إن هاتين الجهتين تعولان على أصوات كتلة وازنة من  "الأغلبية الصامتة"، والتي قد تصل نسبتها إلى أكثر من 50%، وعمودها الفقري هم الشباب، وخاصة من طلاب وطالبات الجامعات، الذين اكتوى أكثرهم بنار الصراع بين فتح وحماس، ولديهم الكثير من رغبات الانتقام والتشفي.

ورغم أن حركة حماس تبدو في المشهد كالأسد الجريح، وهي تحاول بكل الطرق الخروج من ورطة الحكومة بأقل الخسائر، إلا واقع الحال والضغوطات التي تعايشها في الداخل والخارج تفرض عليها المرونة والقبول بشراكات ومواقف لن تُرضي الكثير من كوادرها، لكنها "لعبة السياسة"، التي تعلمك بأن (دخول الحمام مش زي خروجه)!! لأن الخروج من الحكومة لن يكون بدون ثمن.

لا شكَّ أن حركة حماس تحتاج إلى هذه الشراكة إذا ما أرادت إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، ويمكنها من خلال التشريعي –عندئذ- التصدي لأي تجاوزات أو حلول يمكن أن تمس الثوابت الفلسطينية.

القائمة المشتركة وفرص لملمة الجراح

إذا ما اجتهدتُ لقراءة عقل الزعيم الحقيقي لحركة جماس، الأستاذ خالد مشعل، فيمكنني الخروج برؤية المشهد على الشكل التالي:

1) القائمة المشتركة ممر إجباري لإجراء الانتخابات وإنهاء الانقسام.

2) القائمة المشتركة ضمانة لحماس لحماية ظهر المقاومة، حتى في شكلها اللاعنفي.

3) القائمة المشتركة خيار آني للتهدئة وإعادة رص صفوف الإسلاميين.

4) القائمة المشتركة هي المرجحة كخيار لحلفاء حماس من الدول العربية والإسلامية.

5) القائمة المشتركة رغم مساسها بمصداقية حركة حماس وخطابها الدعوي وفعلها المقاوم، إلا أنها أفضل من أن تمتحن الحركة رصيدها، الذي تعرض لاستنزاف هائل خلال العقد ونصف العقد الماضي.

6) القائمة المشتركة ستحظى بنصف المقاعد أو أكثر، وهذا يمنح حماس أربع سنوات لتعزيز مواقعها، واختبار مصداقية فتح في موضوع منظمة التحرير والشراكة السياسية بتوافق وطني.

7) القائمة المشتركة سيكون برنامجها فيه ما يُطمئن المقاومة على سلاحها، والكوادر الحكومية على وظائفها.

8) نجاح القائمة المشتركة في التشريعي سيجعل الفرصة قائمة لإجراء انتخابات رئاسية ومجلس وطني.

9) القائمة المشتركة سوف تساعد حركة حماس لرد الأمانات إلى أهلها، حيث إن هناك الكثير من مستحقات الموظفين ما زالت عالقة.

10) القائمة المشتركة تعني أن حركة حماس بدأت تعي جدلية الدين والسياسة، وهذا سيمهد الطريق أمام تأسيس حزب سياسي، وعودة الحركة لترميم قلاعها الدعوية والحركية.

ختاماً.. لم أتبين موقف الأستاذ خالد مشعل بعد من مسألة القائمة المشتركة، ولكني لا أحسبه سيعترض عليها في السياق السياسي كرؤية للخلاص وإنهاء الانقسام؛ لأن الكثير من نخب الحركة اليوم وفي ظل سياسة الممكن المتاح هي مع كل آلية أو اجتهاد يمكن أن يؤدي إلى جمع صف الفلسطينيين، وفتح قنوات الحوار أمامهم، وإعانتهم على بناء نظام سياسي يتحمل المسؤوليه فيه "الكل الفلسطيني".

بيت القصيد، إن حالة التشرذم والإنقسام في الشارع الفلسطيني لن تنتهي إذا لم نلتقِ وتجمعنا شراكة وطنية، وأن حصوننا ستظل مهددة من الداخل؛ لأن "البيت المنقسم على نفسه –كما قال الحكماء منذ مئات السنين-  لا يمكنه الصمود".

نعم؛ خالد مشعل ليس بسمارك الذي وحد ألمانيا، ولن يكون لنكولن الذي أعاد روح الوطن للأمريكيين بعد الحرب الأهلية، ولكنه سيكون أحد رجالات المرحلة، والمساهم بقوة في إجتماع الشمل الفلسطيني، بهدف تعزير فرص مشروعنا الوطني في التحرير والعودة، وتصويب البوصلة النضالية، حتى تظل القدس في العيون، ومآذنها شامخة لا تهون.