سُلّم الأولويات الأميركية: الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في مرتبة متأخرة

حجم الخط

بقلم: ناحوم برنياع

 


لم تُرافق ضحكات الفرح مراسم التنصيب لجو بايدن على مدرج الكابيتول بل تنفس للصعداء. فسيناريوهات الرعب لم تتحقق: لم يوجه أي جندي من الحرس الوطني سلاحه نحو المنصة؛ ولم تنفجر أي عبوة ناسفة تحت منصة الخطابة؛ ولم ينقطع التيار الكهربائي، ولم تخرب مباني الحكم. عفا ترامب في اللحظة الأخيرة عن سلسلة من المقربين ممن أدينوا أو اشتبه بهم بالفساد، ولكنه لم يعفُ عن نفسه، أو عن أبناء عائلته، أو عن مؤيديه ممن اعتقلوا في أعقاب الاقتحام العنيف للكونغرس. وقال بايدن في خطابه: "انتصرت الديمقراطية – حالياً".
حبذ ترامب أن يغادر بالطريقة التي جاء بها. عندما شقت طائرة الجامبو الرئاسية الطريق باتجاه مسار الإقلاع أطلقت مكبرات الصوت أغنية "طريقي" لفرانك سيناترة. ووعد ترامب الجمهور: "سنعود، بهذه الطريقة أو غيرها". دعا البيت الأبيض الآلاف، بمن فيهم بعض المسؤولين الكبار الذين أقالهم وأهانهم ترامب. وصل 400 فقط. عدد مشابه انتظره في الجادة الجنوبية في فلوريدا في طريقه إلى عزبة الغولف خاصته. بعضهم ارتدى قميص ترامب – بنس من عهد الانتخابات بعد أن شقوا اسم بنس بالسكين. انتهى الاحتفال بعد إقلاع ترامب. وسيعود ترامب ولكن ليس بالضرورة بالطريقة التي أمل بها. فمحاكمة العزل في مجلس الشيوخ ستبدأ في موعد ما. وبخلاف محاولة العزل السابقة، التي عنيت بالاتصالات بين ترامب وروسيا وانتهت بالتبرئة، فإن هذه المحاولة تعد بأكثر من ذلك.
ترامب متهم بالمسؤولية عن اقتحام الكونغرس. وهو يقف أمام مجلس شيوخ فيه أغلبية ديمقراطية وأمام سيناتورات جمهوريين يسعون إلى إزاحته عن الطريق. كما أن الأدلة هذه المرة تعمل ضده. والإدانة حتى بأغلبية عادية ستمنعه من أن يعود ليتنافس مرة أخرى على منصب جماهيري، وستسلبه راتبه، 220 ألف دولار في السنة، ومساعديه وحراسه.
مؤيدو ترامب الأكثر تزمتاً، من محبي نظريات المؤامرة، يبدون هم أيضاً مؤشرات التمرد. فقد بلغ مراسلو موقع بوليتيكو ممن تعمقوا في الشبكات الاجتماعية عن غضب وخيبة أمل. فالمؤيدون توقعوا أن يروا ناراً تهبط من السماء وتحرق واشنطن، مدينة الخطيئة. أما على المستوى العملي أكثر فقد توقعوا من ترامب أن يعفو في اللحظة الأخيرة عن رجالهم ويأمر باعتقال آلاف من مؤيدي اليسار، ويعلن نظاماً عسكرياً. في النهاية، كما اشتكى أحدهم، منح العفو لكل أنواع أصدقائه وحتى لليهود (أفيئام سيلع، أحد الإسرائيليين في قضية بولارد، كان بين الحاصلين على العفو). ترامب خائن.
أمام هذه البشائر القاسية يقف ترامب شبه صامت. فإغلاق حساباته على "تويتر" و"فيسبوك" قطع لسانه. عندما نتبين التأثير الهائل لهذا الإغلاق على جدول الأعمال في أميركا يتعاظم أكثر فأكثر الغضب على أرباب المال وعلى عائلة مردوك، مالكة "فوكس نيوز". أحد الدروس من عهد ترامب هو أن وجود الشبكات الاجتماعية وقنوات الأخبار يستوجب إعادة فحص التوازن بين حرية التعبير وحماية النظام الديمقراطي.
آسف إذا كنت أمسُّ بعصفور روح أحد ما. ولكن فحصاً كهذا يجب أن يتم عندنا أيضاً. فعندما يتوجه الحكم إلى التحريض، إلى الأكاذيب، وإلى نظريات المؤامرة يجب أن يوجد طريق قانوني للجمه. وينطبق هذا على أصحاب المليارات الذين يبنون وسائل دعاية لحرف الحقيقة. الاهتمام بترامب لا بد سينخفض ولكن الانكسار الداخلي، وانعدام الثقة، والخطر المحدق من جهات تآمرية عنيفة، ستواصل الاثقال على أميركا. والتحدي الذي يقف أمامه بايدن، ابن الـ 78، هائل، يمكنه أن يواسي نفسه بأن ترامب ترك له مجتمعاً في وضع سيئ جداً يمكنه منه فقط أن يعلو. وهو يعرف أن أميركا مريضة ومهمته هو أن يداويها. وهو يعرف من جهة أخرى أن الأضرار التي ألحقتها فترة ترامب ملزم هو بأن يصلحها وبسرعة. كما أنه ملزم بأن يعالج الأمراض العميقة التي لم يخترعها ترامب ولكنه كشف عنها. والحكمة هي المناورة بين القطبين، بحساسية وبتصميم. وفي هذه الأثناء فإنه يفعل هذا بحكمة عظيمة.
تركز أميركا في هذه اللحظة على المواضيع الداخلية، وعلى الوباء، وعلى الأزمة الاقتصادية، وعلى التغييرات والتعيينات التي جلبتها الإدارة الجديدة. أما العالم فينتظر على جدول الأعمال. ولكن العالم لا يتوقف. وهو سيطالب باهتمام الرئيس الجديد، شاء أم أبى. الصين هي الموضوع الأول أو الثاني على جدول الأعمال. إيران هي الموضوع الثالث أو الرابع. الفلسطينيون التاسع أو العاشر. في موضوعين – إيران والفلسطينيين- يعتزم بايدن السير في طريق مختلف عن طريق ترامب. قبل أن ندخل إلى بحث مفصل في هذه المسألة يجدر بنا أن نسجل لأنفسنا نقطتين أساسيتين: بايدن ليس ترامب، وبايدن ليس أوباما.
ونقطة ثالثة: في كل ما يتعلق بالنووي الإيراني، فشلت الدبلوماسية الإسرائيلية فشلاً ذريعاً.
حاول أوباما كبح المشروع النووي من خلال اتفاق دولي. رد نتنياهو بظهور دراماتيكي في الكونغرس من خلف ظهر الرئيس. وكان الخطاب مبهراً، وكذا النتيجة. وشدد الخوف من عملية عسكرية إسرائيلية الضغط على أوباما للوصول إلى اتفاق مهما يكن. ولم يستجب الاتفاق لكثير من المطالب الأمنية العادلة لإسرائيل. ومع ذلك فقد كبح استمرار التخصيب.
جاء ترامب فانسحب من الاتفاق النووي، كما طلبت إسرائيل، وشدد العقوبات على إيران. أضعفت العقوبات إيران اقتصادياً، ولكن رغم التقديرات المتفائلة في القدس، لم يسقط النظام. وسمح الانسحاب الأميركي من الاتفاق للإيرانيين استئناف العمل على المشروع النووي. جاء بايدن فقرر إعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق. وأوضح نيته في محادثات علنية وأقل علنية. فهو يعتزم العودة إلى الاتفاق، وإلغاء أو تقليص العقوبات، وعندها الشروع في مفاوضات مع الإيرانيين بهدف تحسينه وتمديده. ما يوجهه هو القلق من تقدم إيران نحو القنبلة. في إسرائيل يتابعون العملية بقلق كبير. ويقول مصدر مطلع: إن "اتفاقاً جيداً هو اتفاق سيئ". في إسرائيل يسألون ماذا سيحصل في اليوم الذي ينتهي فيه مفعول الاتفاق، ولا يكون الإيرانيون ملزمين بشيء للعالم، وتكون القنبلة على مسافة لمسة؟
هناك ثلاث مشاكل تشغل بال إسرائيل: الثقوب في الرقابة على المشروع؛ وتقدم الإيرانيين في نصب أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً (IR9 وIR8)، والتقدم في إنتاج الصواريخ والرؤوس المتفجرة.
الفرضية في إسرائيل هي أن للإيرانيين مصلحة عليا في العودة إلى الاتفاق. فوضعهم جيد أقل مما كان في 2015، عند التوقيع على الاتفاق. يمكن السماح لهم بأن ينضجوا أكثر قليلاً.
طاقم الأمن والخارجية، الذي عينه بايدن، يمتلئ بأشخاص كانوا مشاركين في المفاوضات مع إيران. وفي إسرائيل يقدرون أن هؤلاء الأشخاص غارقون في الاتفاق مع إيران. فهم يريدون أن يشطبوا كل ذكر لخطوات ترامب. وسيسارعون جداً للعودة وللتوقيع. ويقول المصدر: إنه " من المحظور أن يكون الاتفاق هو الاتفاق السابق رقم 2".
حبذ أوباما التجلد أمام حملة نتنياهو. أما بايدن فيوجد في وضع آخر. الأغلبية في مجلسَي النواب انتقلت من الجمهوريين إلى الديمقراطيين. وإمكانيات نتنياهو محدودة. وذاكرة بايدن طويلة. ما كان، يقول لي مصدر أميركي، لن يكون.
توجد في إسرائيل محافل تحلم بصفقة رباعية: توافق دول الخليج على تمويل إعادة بناء سورية، وسورية بالمقابل تبعد إيران عن حدودها، ويرفع الأميركيون العقوبات التي فرضوها على روسيا، وروسيا بالمقابل تخرج من سورية.
هذا لن يحصل، يقول لي مصدر أميركي. فقد سبق للفكرة أن طرحت ورفضت. الإيرانيون لا يبدون اهتماماً؛ ولا السوريون؛ العقوبات على روسيا فرضت في أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، أرض سيادية أوكرانية. لا يؤيد بايدن الاحتلال.
أما الموضوع الفلسطيني فملح أقل، ولكن ليس أقل تعقيداً. فحسب القرار الذي مرره كيري عندما كان وزير خارجية في إدارة أوباما يجري مجلس الأمن كل شهر بحثاً في الموضوع الفلسطيني. جاء البيت الأبيض بقيادة ترامب فعطل هذه المداولات، لتفرح حكومة إسرائيل. ولن تتعهد إدارة بايدن مسبقاً بأن تؤيد كل خطوة إسرائيلية في الضفة. فعندما ترغب الحكومة في شرعنة بؤر استيطانية غير قانونية، وأن تبني أو تضم، فإنه سيتعين عليها أن تقنع البيت الأبيض مسبقاً. حكومة الـ 61 اليمينية التي يتحدث عنها نتنياهو ستولد مع يدين مكبلتين. وكما سبق أن قلنا فقد انتهى الاحتفال.
 عن "يديعوت"