تعتبر نسبة الأمهات المرضعات رضاعة طبيعية كاملة في السنوات الأخيرة تُعدّ ضئيلة جداً، خصوصاً أنَّ كثيرا منهنَّ تخلين عن الإرضاع الطبيعي في بداية الأشهر الأولى من الوضع، إن لم يكن بعد مرور (40) يوماً، وتعتمد الأمهات بشكل كلي على الحليب الصناعي، الذي لا يمكن أن يقارن بأيّ حال من الأحوال بحليب الأم، وتُعد الرضاعة الطبيعية مصدرا غذائيا طبيعيا ومجانيا في الوقت ذاته، كما أنَّ أهميتها لا تقتصر على النمو الجسمي فحسب، بل تمتد إلى النمو النفسي والعاطفي للطفل، فضلاً عن وجود قائمة طويلة من الفوائد الصحية التي تتحقق للأم المرضعة.
مساندة معنوية
وأوضحت "تهاني الدوسري" –موظفة- أنَّ الرضاعة الطبيعية الكاملة أصبحت في الوقت الحالي تقتصر على الأطفال حديثي الولادة، خصوصاً إذا كانت الأم موظفة ولديها الكثير من المسؤوليات في المنزل والعمل، مُضيفةً أنَّها تفضل الرضاعة الطبيعية، ومع ذلك فإنَّها لم تستطع الاستغناء عن فكرة الخلط ما بين الطبيعية والصناعية، مُرجعةً ذلك إلى أنَّها لم تجد الوقت الكافي للتفرغ التام لإرضاع طفلها كلما جاع، كما أنَّ الرضاعة الطبيعية تتطلب جهدا وطاقة من الأم.
وأشارت إلى أنَّ الأم المرضعة تفتقد المساندة المعنوية من أقرب المحيطين بها في كثير من الأحيان، مُضيفةً أنَّه بمجرد أن تبدأ الأم في إعطاء طفلها الحليب الصناعي، فإنَّها تجده يستسهل الرضاعة من الزجاجة، وبالتالي فإنَّها تستسهل الأمر بعد ذلك حتى تصل لمرحلة جفاف ثدييها والطفل ما يزال في الشهور الأولى من عمره، داعيةً لعدم تخزين كميات من حليب الأم في زجاجة الرضاعة بعد إخراجه بمضخة الثدي ليتناوله الطفل أثناء غيابها.
وأيَّدتها الرأي "سماح العسيري" –موظفة-، مُضيفةً أنَّها تعتمد على الحليب الصناعي في إرضاع طفلها؛ لأنَّها لا تجد الوقت الكافي لرضاعته رضاعة طبيعية كاملة، مشددةً على أهمية تحديد ساعات لإرضاع الطفل بشكل طبيعي في مكان عمل المرأة، مُبيِّنةً أنَّ بعض الأمهات يتصوَّرن خطأً أنَّ الرضاعة الطبيعية تؤدي إلى ترهّل الثديين وزيادة وزن الأم المُرضعة، وبالتالي يحرمن أطفالهن من حليب قيمته الغذائية لا تعوض مهما كانت جودة البديل.
فطام الطفل
ورأت "جيهان البلوي" أنَّ هذه النظرة لم تقتصر على الأمهات العاملات، بل حتى على ربات المنازل، خصوصاً الأمهات الشابات، واصفة أسئلتهنَّ بالمستفزة خلال فترة حملهنَّ الأول عن أفضل أنواع الحليب الصناعي وعن أسرع طريقة لفطام الطفل، خصوصاً أنَّ هناك من ترغب في السفر –مثلاً- دون رضيعها بعد خروجها من فترة النفاس، وأخرى ترى أنَّ إرضاع طفلها الصغير سيُقيدها من الخروج من المنزل كلَّما أرادت ذلك.
عناصر غذائية
ووصفت "وفاء البلوي" – رئيسة قسم التثقيف الصحي بمستشفى الولادة والأطفال بتبوك – الأعذار التي ترددها كثير من الأمهات عند تخليهن عن الرضاعة الطبيعية في الأشهر الأولى بالمخجلة وغير المنطقية، مؤكّدة أنَّه لا توجد أسباب تبرر فطام الطفل في شهوره الأولى إلاَّ في حالات محدودة، كمرض الأم أو سفرها، مشيرةً إلى أنَّه ثبت طبياً أنَّ هناك أدوية تصرف للأمهات مخصصة للرضاعة وأخرى يتم إيقاف الرضاعة عند تناولها.
وقالت: "إنَّ فوائد حليب الأم لا يمكن مقارنتها بالحليب الصناعي بأيّ حال من الأحوال"، مُضيفةً أنَّه يوفر الاحتياج الكامل للنمو الجسمي في الأشهر الأولى من حياة الطفل، كما أنَّ فائدته تمتد ليحقق النمو النفسي والعاطفي للطفل، مُشيرةً إلى انَّه غني جداً بعناصر غذائية طبيعية، وأهمها البروتينات والأجسام المضادة التي تساعد على تقوية الجهاز المناعي للطفل بشكلٍ يساعد على منع كثير من الالتهابات التنفسية والبولية.
فوائد صحية
وأضافت "وفاء البلوي" أنَّ من أهم الفوائد الصحية التي تعود على الأم المرضعة، وقايتها من سرطان الثدي والمبيض، إلى جانب تنظيم الحمل، وكذلك محافظاتها على المستويات الفسيولوجية للهرمونات، إضافةً إلى دوره الكبير في توثيق العلاقة بين الأم ورضيعها، مُبيّنةً أنَّ أهم الأسباب المسؤولة عن إحجام الأمهات عن الرضاعة الطبيعة في الأشهر الأولى تتعلق بقصور الوعي بفوائدها المتعلقة بالطفل والأم، إلى جانب غياب الدور الحقيقي للأسرة.
وبيَّنت أنَّ بعض الأمهات لا يشجعن بناتهنَّ على الرضاعة الطبيعية في الأيام الأولى من ولادتهنّ بحجة أنَّها متعبة ومنهكة، متناسيات أهمية حليب الأم في تلك الأيام، إلى جانب أنَّ تعويد الطفل على الرضاعة الصناعية حتى تتعافى الأم يؤدي إلى قلة الحليب وضعف الإدرار، لافتةً إلى أنَّ بعض المشكلات الطبية التي تواجهها كثير من الأمهات قد تعيق عملية الإرضاع، لكنها يجب ألاَّ تصل لحد الفطام، ومن ذلك احتقان الثدي وقرحة الحلمات أو وجود تقرحات والتهابات فطرية.
برامج توعوية
ولفت "د. خالد الفالح" -أستاذ مشارك بكلية الطب في جامعة الملك سعود، استشاري أطفال حديثي الولادة- إلى غياب الدراسات والأبحاث التي من المفترض أن توضح النسب الحقيقية لتراجع الأمهات عن الرضاعة الطبيعية، مُضيفاً أنَّ هذا الأمر يجب أن يكون محل اهتمام واضعي البرامج التثقيفية والتوعوية في هذا المجال، مُوضحاً أنَّ هناك مؤشرات عدة تؤكد عزوف الأمهات عن الرضاعة الطبيعية، مُشيراً إلى أنَّه طبقا لدراسة أجريت في المملكة عام (2008م) بينت أنَّ نسبة الأمهات المرضعات رضاعة طبيعية كاملة لمدة ستة أشهر بحسب ما أوصت به منظمة الصحة العالمية كانت أقل من (10%).
وأوضح أنَّ أهم الأسباب التي كشفت عنها الدراسات، قلة التوعية بأهمية الرضاعة الطبيعية، إلى جانب توفر البديل "الحليب الصناعي" وتعدد أنواعه في الأسواق، مضيفاً أنَّ هناك تصورا خاطئا لدى بعض الأمهات وهو أنَّ الرضاعة الطبيعية تؤثر على الشكل الجمالي للثدي وتزيد من ترهله، مبيناً أنَّ هذا السبب الخفي قد لا يظهر كثيراً في الدراسات، إلاَّ أنَّه شائع ومعروف، مؤكداً أنَّ مشكلة الرضاعة الطبيعية وشحها مشكلة خليجية.
منتجات رخيصة
وأضاف "د. الفالح" أنَّ السبب في ذلك يعود إلى عامل الترف في المجتمع الخليجي، إلى جانب التنافس غير العادل بين منتجات الحليب الصناعي والرضاعة الطبيعية، إذ أنَّ منتجات الحليب الصناعي متوفرة ورخيصة وتجد تشجيعا ودعاية خاصة من قبل أفراد الأسرة والمجتمع القريب من الأم والشركات، وذلك بخلاف الرضاعة الطبيعية التي لا تجد فيها الأم أيّ مساندة أو دعم من قبل الأسرة، لافتاً إلى أنَّ جهود التوعية والتثقيف بوزارة الصحة لم تحقق ما هو مأمول منها.
وشدَّد على ضرورة إعادة النظر في سياسة وطبيعة تلك البرامج؛ لأنَّه من المهم أن تنعكس الجهود المبذولة على معدلات الرضاعة الطبيعية، موضحاً أنَّ اقتصارها على الأيام الثلاثة الأولى يُعد قصورا في العمل والمنهج، مُضيفاً أنَّ الوقت الذي تتم فيه توعية الأمهات، وهو الذي يبدأ في أجنحة ما بعد الولادة، لن يأتي بالنتائج المرجوة، مُشيراً إلى أنَّه توقيت خاطئ، خصوصاً أنَّ الأم تكون هنا في حالة من التعب والإعياء.
توعية الأم
وأكَّد "د. الفالح" أنَّ أبرز خطط التوعية المستقبلية لا بُدَّ أن تبدأ في المراحل الدراسية، متسائلاً: "لماذا تغيب الفوائد الجمة للرضاعة الطبيعية عن المناهج الدراسية في المرحلتين الثانوية والجامعية؟ متسائلاً أيضاً عن عدم توعية الأمهات أثناء متابعة الحمل، مُبيِّناً أنَّها تُعدُّ فرصة جيدة ومناسبة لتقبل الأم للنصائح وإقناعها، حيث إنَّها تكون حينها بحالة نفسية مستقرة وفي راحة تامة، موضحاً أنَّ دور المجتمع والأسرة في دعم الرضاعة الطبيعة ضعيف جداً.
وأشار إلى أنَّه من المهم أن تدرك المرأة والزوج أنَّ ما يحدث من قلّة في إدرار الحليب في الأيام الأولى هو عملية فسيولوجية طبيعية لا تستدعي توفير البديل حالاً، مُضيفاً أنَّ الكمية تناسب معدة الطفل التي تكبر مع زيادة كمية الحليب تدريجياً، حيث تتضاعف يومياً لتصبح كافيةً فيما بعد، موضحاً أنَّه من المؤسف الحديث عن زيادة الأسعار وعدم النظر إلى جودة المنتج الذي لا يقارن من الأساس بجودة حليب الأم.
رقابة متواضعة
وبيَّن "د. الفالح" أنَّ السوق المحليّ سوق مغر وسهل وعملية الرقابة علية متواضعة، مُضيفاً أنَّه يتم توريد ما يزيد على (٢٧) نوعا من الحليب الصناعي، وذلك بحسب دراسة رصدها قبل أشهر، موضحاً أنَّ الرضاعة الطبيعية في الدول الغربية أمر مفروغ منه، وبالتالي فإنَّها محميّة، مُشيراً إلى أنَّ عدد سكان المملكة (٣٠) مليون نسمة، وفي أمريكا (٣٠٠) مليون، وحينما نقارن عدد أنواع الحليب الصناعي في المملكة نجدها تصل إلى (٢٧) نوعا.
وأضاف أنَّ العدد في أمريكا الشمالية لا يتجاوز أربعة أنواع، وهو أمر لا يتعلق بأبعاد تجارية، فالتاجر يرغب في الربح في أيّ مكان من العالم، لكن هناك جهودا حقيقية للحد من توفّر الحليب الصناعي؛ حتى لا تؤدي الوفرة والتنوع إلى الإضرار بالمنتج الأساسي، داعياً "هيئة الغذاء والدواء" إلى إدراج الحليب الصناعي في قسم الدواء؛ وذلك لصرامة تسجيل وتدقيق ومراقبة الأدوية في المملكة، لافتاً إلى أنَّ الحليب الصناعي منتج أساسي للطفل الرضيع في الأشهر الستة الأولى.
منتج علاجي
ولفت "د. الفالح" إلى أنَّه يُعامل حالياً كغذاء مثله مثل أيّ حليب آخر، بينما يُعد الحليب الصناعي للطفل الرضيع فيما دون السنة منتجا علاجيا، مشدّداً على ضرورة زيارة المصانع، ومن ثمَّ التدقيق وتحليل الفيتامينات والمكونات والتأكد من أنَّ المواصفات خارج العلبة مطابقة لما يوجد بداخلها، داعياً للكشف الدوري على الأقل مرة كل تسعة أشهر؛ للتأكد من جودة المنتج، موضحاً أنَّ هناك تعديا على قرار مجلس الوزراء فيما يخص تسويق بدائل حليب الأم.
وأوضح أنَّ القرار ينص على أنَّه حينما تتم رضاعة الطفل لسبب ما رضاعة صناعية في المستشفيات، فإنَّه لا بُدَّ من تغطية وإخفاء العلبة، بحيث لا يُعرف اسم المنتج، مُضيفاً أنَّ هناك منعا لأيّ دعايات للحليب الصناعي المخصص لتغذية الرضع فيما دون السنة، مبيّناً أنَّ الأم قد تفهم بشكل غير مباشر أنَّ تلك الشركة قوية من خلال دعاياتها لحليب ما بعد السنة الأولى، فتبادر إلى شراء الحليب لطفل في شهوره الأولى.
ودعا أطباء الأطفال إلى عدم الترويج لتلك الشركات، مُضيفاً: "لا يخفى علينا كأطباء أنَّ أكثر أسباب انتشار الرضاعة الصناعية وتفضيل منتج معين على منتج آخر هو التوفر في أجنحة ما بعد الولادة، إلى جانب تأثير الممارس الصحي وهو طبيب الأطفال"، مُشيراً إلى أنَّ العديد من الشركات تتنافس على التواجد في جناح ما بعد الولادة، إلى جانب محاولة إقناع الطبيب بالمنتج حتى يتم وصفه للأمهات.