الحب في زمن «الكورونا»..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

في الذهن تحفة ماركيز عن «الحب في زمن الكوليرا». ولكن علاقتها بهذه المعالجة تتوقف عند عتبة الاسم، وتشاركها موضوع الوباء. ففي معرض التفكير عما يتخلّق، الآن، من المعاني المحتملة للعالم. والاعتراف بصعوبة القبض عليها، ثمة ما يبرر التوّقف عند الحب، ولكن من مدخل مختلف.
أفكّرُ في هذا الأمر، وفي الذهن أشياء من نوع «الماسك»، وانتقال العدوى، والتباعد الاجتماعي، وكلها مفردات اقتحمت صميم الحياة اليومية في زمن «الكورونا». ولا أعني بالحب كل شيء آخر ما عدا الشهوي، والأصل فيه إعادة إنتاج النوع، وفي كل إعادة إنتاج للنوع إنتاجٌ لمعجزة الحياة، وكل ما عدا ذلك من تعريفات مُحتملة منتجٌ ثقافي، بصرف النظر عن موقفنا منها.
والواقع، أن مجرّد التفكير في أن ما نعرف عن شيء ما هو مُنتج ثقافي، وليس الشيء نفسه، بالضرورة، يبرر التفكير في أن للحب، كما لكل شيء آخر، تاريخه الخاص، وأن هذا التاريخ يتكوّن من ماض وحاضر، وينفتح على مستقبل ما. وهذه كلها ساحات حرب مفتوحة منذ النزول عن الشجرة في الغابة قبل ملايين السنوات: حرب في حقل الدلالة، وتأويلها، وحرب في حقل الفعالية، وتقنينها، حرب في المعنى وعليه، الحرب التي لم تتوقف حتى الآن. ولن تتوقف طالما هناك حياة.
ولا نعرف، فعلاً، مِنْ، وعن، تاريخ هذه الحرب، وما أنجبت من المعاني، ما هو أبعد من اثنتي عشرة ألف سنة، أي منذ «ولادة» التاريخ مع اكتشاف الزراعة، و»ولادة» الإنسان، في التاريخ، مع اكتشاف الأبجدية، وما ترّسب من بقايا ذاكرة غابرة في أساطير السومريين والبابليين والفراعنة والإغريق.
ومع ذلك، لا حاجة لنبش الماضي السحيق، فما زال الحدث المؤسس لتلك الذاكرة، على حاله، هو نفسه، ولا يحتاج اكتشافه إلى أبعد من حادثة ثورة الهرمونات، التي عصفت بنا في زمن البلوغ، بالطريقة نفسها، والتفاصيل نفسها، التي عاشها توت عنخ آمون. والفرق الوحيد بيننا وبينه، رغم الجغرافيا والقرون الطويلة، هو التأويل الثقافي لهذا كله.
وبما أن اختيار تعبير الحب، بدلاً من الجنس، في هذه المعالجة لم يكن اعتباطياً، فلنفكر في هذا الأمر الآن. فما نعرفه، في الوقت الحاضر، عن كليهما ليس ماهيتيهما، بالضرورة، بل ما استقرت عليه تأويلات ثقافية سادت، وغالباً ما نجمت عن إكراه. ففي النسق العربي - الإسلامي، مثلاً، تدور حرب أهلية بين الجنسين، يشنها طرف واحد منذ قرون. وحتى ظاهرة «داعش» يمكن تفسيرها بهستيريا الذعر الذكوري من خسارة الحرب.
على أي حال، كلما وقع الفصل بين الحب، الذي سميناه بالشهوي، والجنس، فلنفكر في الأمر كفعل ثقافي حديث نسبياً، لا كحقيقة تاريخية، أو بيولوجية، فلم تفصل حضارات كثيرة بين الأمرين، حتى على صعيد اللغة. وينبغي التذكير أن الحب أبعد وأعقد من الجنس، لأنه، وإن كانت إعادة إنتاج النوع أصله، لا يُختزل فيها، أو يتوقّف عندها، وإلا لما أنجب كل تلك الأساطير والفنون والاستيهامات من «نشيد الإنشاد»، وحتى قصيدة الشوق الغامضة التي تكتبها بنت في الرابعة عشرة في رام الله، أو نيويورك، الآن.
وتلك لحظة انفصال الإنسان عن بقية الثدييات، وغيرها من الكائنات الحيّة، التي يُختزل وجودها في إعادة إنتاج النوع. والواقع أن مراقبة الحقل الدلالي لإعادة إنتاج النوع في عالم الحيوان، والطير، تُسهم في تفسير عملية الانفصال. فالغواية، والتودد، والصراع، بل وحتى الرفقة الممتدة، أحياناً، تتجلى في ذلك العالم، ولكنها تبقى محكومة بدورات نزوية محددة، ومُجرّدة من الذاكرة، ومن مبدأ اللذة، الذي وضعه فرويد في إطار أَعرض للإيروس، والذي يشمل، بدوره، طاقة الحياة والإبداع، ويحض عليهما.
وعلى خلفية كهذه، ثمة ما يبرر التفكير في أشياء من نوع: هل ثمة من تاريخ للحب، كما لكل شيء آخر، في زمن «الكورونا»؟ وهل ستترك بصمة عليه، كما تركت على كل شيء آخر؟ وإن كان الأمر كذلك، والأمر كذلك، فما هي التأويلات الثقافية المُحتملة، مع إدراك مُسبق لحقيقة التباين والتفاوت في التأويل بين الثقافات؟ لن نعرف إجابات، في هذا الشأن، في وقت قريب، وإن كنّا نعيشها، ونسمع أصداءها، بالمعنى اليومي للكلمة.
ومصدر الصعوبة في القبض على ما يمكن أن يمثل تاريخاً للحب، الآن وهنا، أنه يندرج قسراً في باب المسكوت عنه. وهذه مفارقة موحية. ففي المرئي، والمقروء، والمسموع، ما لا يحصى من الكلام عن تداعيات الجائحة على الاقتصاد، والرياضة، والسياسة، والسياحة، والنقل، والمقابر، والمشافي، وكل ما قد يخطر ولا يخطر على البال، ولا شيء تقريباً عن الحب.
سنقرأ، طبعاً، عمّا قريب روايات، ونرى أفلاماً ومسرحيات، عن تجليات الحب في زمن «الكورونا». ولكن تسعة وتسعين بالمائة منها لن تكون باللغة العربية، على الأرجح. ويبقى أن نحتفظ بالعينين مفتوحتين لنرى كيف يشتغل التأويل في الحقل الدلالي للحب بأدوات اللغة العربية، وذاكرتها الثقافية، ومخيالها العاطفي، وكوابحها السياسية، وشرطتها الأخلاقية، التي تخشى منه، علينا، أكثر من خشيتها من الفيروس نفسه.