لن تكون في فلسطين إلا دولة ديمقراطية واحدة ..!

حجم الخط

بقلم د. عبد الرحيم جاموس

 

 

لم تكن فلسطين يوما ما أرضاً فراغ منذ بدء الخلق وهي ملك سكانها العرب الكنعانيون الفلسطينيون، فقد شهدت فلسطين إنشاء أول الحضارات الإنسانية على الإطلاق، ففيها أول مدينة أقامها الإنسان على الكرة الأرضية (مدينة أريحا) ليس المقصود من هذا المقال البحث في قيمتها التاريخية فقط، بقدر ما نريد أن نؤكد على حقيقة تاريخية إنسانية إجتماعية سياسية قانونية، وهي أن فلسطين ملك شعبها العربي الفلسطيني من نهرها إلى بحرها، لا ينازعه في أحقية ملكيتها أي شعب آخر، وما العدوان الإستعماري الحديث الذي تعرضت إليه فلسطين في بدايات القرن العشرين بقيادة وتواطئ قوى الإستعمار البريطاني والعالمي مع الصهيونية العالمية بغرض شطب هذا الإقليم وشطب حقوق شعبه الأصيل  العربي الفلسطيني فيه، وعدم تمكينه من بناء دولته وتحقيق إستقلاله وصياغة مستقبله أسوة ببقية الشعوب المستعمرة والمنسلخة عن الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين، وإقامة وإحلال الكيان الصهيوني على الجزء الأعظم من إقليم وأرض فلسطين مع منتصف القرن المنصرم، وإستغلال الظروف من حالة الضعف العربي وظروف الهيمنة الإستعمارية التي كان يخضع لها العالم العربي بما فيه دوله المستقلة آنذاك قد مكن من تمرير تلك المؤامرة وأدى إلى تمزيق إقليم فلسطين وتشريد وتهجير معظم الشعب الفلسطيني عن أرضه، ورغم ذلك لا يفقد الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية والإجتماعية والقومية والسياسية في وطنه فلسطين كل فلسطين من نهرها إلى بحرها. 

لقد إرتسمت الكارثة وبصورة تراجيدية محزنة عندما منع شعب فلسطين من مقاومة الإستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية، وقد دخلت الجيوش العربية عام 1948م إلى فلسطين بذريعة الدفاع عنها ومواجهة العصابات الصهيونية المدعومة من القوى الإستعمارية الغربية وقد منيت بهزيمتها الكبرى مخلفة للعرب وللفلسطينيين النكبة الكبرى، وقد توجت تلك الهزيمة بتوقيع الدول العربية إتفاقات الهدنة في جزيرة رودس عام 1949م بين كل من الدول العربية (مصر والأردن وسوريا ولبنان) على التوالي مع الكيان الصهيوني الوليد وتم  ترسيم خطوط الهدنة معه وتم وضع المراقبين الدوليين وقوات الطوارئ الدولية لتحرس هذه الحدود وقد حالت دون السماح للشعب الفلسطيني من إختراق هذه الخطوط ومقاومة المحتل الغاصب لوطنه، وقد الحقت بقية الأراضي المتبقية من فلسطين، (قطاع غزة بمصر)، (والضفة الغربية بالأردن)، لتكتمل أركان الجريمة بضياع هذه الأجزاء في حرب 1967م وإعتبارها نكسة تضاف إلى النكبة، لم يستسلم الشعب الفلسطيني أمام هول هذه الجريمة الكارثية التي حلت به، فقد إنطلق في منتصف ستينات القرن الماضي 01/01/1965م بثورته المسلحة المعاصرة بقيادة حركة فتح، ليخلخل أركان العدو الصهيوني، ويفرض نفسه من جديد ويوقف سياسة التذويب والتغييب والشطب له من جغرافية المنطقة والإقليم، ويفرض وينتزع إعتراف العالم به بما فيه الكيان الغاصب نفسه. 

الشعب الفلسطيني حقيقة اجتماعية وسياسية وقانونية وتاريخية وجغرافية واقعية ثابتة وعصية على الإنكار بفعل تواصله وإستمراره فوق أرضه في الأراضي المحتلة عام 1948م وكذلك فيما أحتل في العام 1967م، وتمسك اللاجئين والنازحين الفلسطينيين بحقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم وديارهم التي اقتلعوا وشردوا منها، وإعادة بناء حياتهم ونظامهم ومستقبلهم في وطنهم فلسطين، لكن تعاطياً مع النظام الدولي القائم المسيطر والمنحاز واستمرار حالة الضعف العربي والإختلال في ميزان القوى لصالح الكيان الصهيوني والقوى الداعمة للعدوان وتماشيا مع ما يسمى بالشرعية الدولية وقراراتها المائعة والمائلة والتي لم يجد أي منها طريقه للتنفيذ، وتماشياً مع الأوضاع العربية التي لا زالت كارثية ولا تسرُ الصديق، قبل الفلسطينيون بحل واقعي يقوم على اساس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية على أن يؤدي إلى إنهاء الإحتلال الصهيوني للأراضي المحتلة عام 1967م وتمكينه من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحل مشكلة اللاجئين وفق القرار 194 القاضي بالعودة والتعويض، ولكن مع هذه الميوعة في الموقف الدولي وفقدان قراراته قوة الإلزام والتنفيذ، والتداعي والتراخي العربي، واصل الكيان الصهيوني إحتلاله الأراضي الفلسطينية والعربية والتنكر لكافة القرارات الدولية، وواصل سياسته الإستيطانية وإجراءاته العدوانية الهادفة إلى عدم التمكين من إقرار حل واقعي يؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية على تلك الأراضي (المحتلة عام 1967م) بجانب كيانه الغاصب، ظناً منه والقوى المتواطئة معه، أن ذلك سوف يضمن له استمرار السيطرة الكاملة على إقليم فلسطين وفرض صياغة الأمن والسلام مع الفلسطينيين ومع العرب وفق رؤيته  منفردا بما يكفل له استمرار توسعه وتثبيت كيانه دون التسليم بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقد شجعه على ذلك التهافت من البعض العربي للتطبيع معه  إلى درجة التواطئ مع مخططاته التوسعية وتطلعاته في الهيمنة والنفوذ على المنطقة. 

إن عدم الإستشعار العربي لدرجة الخطورة التي يمثلها هذا الكيان في ظل التوجه المتهافت نحوه دون قيود ...  يمثل خطرا بالغا على الأمن القومي العربي لجميع الدول العربية .. لما سيخلفه من حالة فوضى وعدم إستقرار في المنطقة على غرار ما تشهده من حرائق وإنفجارات يتطاير شررها إلى أنحاء مختلفة. 

رغم كل هذا العنت الصهيوني بقي الفلسطينيون حقيقة ثابتة إجتماعياً وسياسياً وقانونيا وتاريخيا، عصية على الذوبان أو التغييب من جديد وإن تدمير حل الدولتين المقترح فوق إقليم فلسطين سيفتح الباب على مصراعيه لحل الدولة الواحدة فقط، لكن ليست الدولة الواحدة العنصرية الإستعمارية الإستيطانية التي يسعى الكيان الصهيوني لفرضها بالقوة وطمس الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني كما رسمت لذلك صفقة القرن الأمريكية البائدة، هذه الدولة العنصرية الإستعمارية يرفضها ويقاومها الشعب الفلسطيني بكل فئاته وقواه، مؤكداً أن البديل الطبيعي لها في ظل فشل حل الدولتين سيكون هو حل الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل إقليم فلسطين التاريخية والتي تمثل الحل التاريخي لإنهاء الصراع، التي تقوم فيها العلاقة بين الفرد والدولة على أساس من المساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، فالدولة هي دولة مواطنيها على إختلاف عقائدهم وألوانهم وأجناسهم، ذلك هو الحل الطبيعي والوحيد الكفيل بإنهاء هذا الصراع، وإحلال الأمن والسلام من خلاله للجميع، والذي لابد أن يجد السند والتأييد من المجتمع الدولي وقواه المختلفة، التي ترفض قوانينه وقراراته كافة أشكال الميز العنصري وكافة النظم العنصرية، كما رفض العالم وأسقط النظم العنصرية في جنوب القارة الإفريقية، وانتصر للعدالة والمساواة بين البيض الأوروبيين المستوطنين والسكان الأفارقة الأصليون، وهنا أستذكر مداخلتي من على منصة مؤتمر حركة "فتح" السابع المنعقد في رام الله في نوفمبر 2016م، والتي قصرتها على طرح هذه الرؤية وضرورة التأكيد على رفض الدولة العنصرية الواحدة التي يفرضها الإحتلال على الأرض كبديل لحل الدولتين، إننا نؤكد تمسكنا بحل الدولتين وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، لكن أمام التراخي والتسويف الدولي من جهة وامام سياسات الكيان الصهيوني المنكرة لها لغاية الآن من جهة أخرى، فإن الباب يفتح واسعاً في هذه الحالة أمام حل الدولة الواحدة والنضال من أجل تحقيقها، لكنها ليست الدولة العنصرية الواحدة التي يسعى إلى فرضها الكيان الصهيوني، إنما هي الحل العادل الذي ننشده والذي يؤدي إلى إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة التي ترتكز على أساس المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات للجميع دون تمييز، والتي تؤدي إلى هزيمة المشروع الصهيوني الإستعماري العنصري الإستيطاني التوسعي الفاقد للمشروعية، والعمل على إعادة الحقيقة التاريخية والسياسية والقانونية لإقليم فلسطين وإحلال الأمن والسلام للجميع في فلسطين والمنطقة برمتها. 

هذا الإستعراض قد يكون معروفاً للكثيرين، لكن الهدف منه هو أن تدرك القوى الفاعلة في السياسة الدولية وفي مقدمتها دول مجلس الأمن الدائمة العضوية، والمنتظم الدولي والدول العربية الشقيقة، أن شعب فلسطين لن يستسلم أمام جبروت القوى العنصرية وأمام التراخي الدولي والتهافت والتطبيع العربي، الشعب الفلسطيني يملك من عناصر القوة والثبات ما يحول دون أن يتمكن الكيان الصهيوني من فرض رؤيته للدولة العنصرية الواحدة، ويملك الشعب الفلسطيني مساحة التحرك على الأرض الفلسطينية التي يتواصل صموده عليها ويؤسس عليها مؤسسات دولته التي يشهد له الجميع بالقدرة والكفاءة المميزة التي تؤهله لإفشال الرؤية الصهيونية، وإنتزاع إستقلاله وبناء دولته المستقلة وصياغة مستقبله فوق أرضه مهما طال الزمن فهو يعمل لصالح هذه الحقيقة.