مقاطعة الانتخابات غباء سياسي

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

بقلم: عاطف أبو سيف

ليست الانتخابات إلا أفضل طريقة نعرفها من أجل ترتيب الوضع الداخلي. وهو التجلي الأوضح لمفهوم الديمقراطية وطريقة عملها، وعليه فهي خيار من يملك خياراً ومن لا يملك خياراً. وفي الحالة الفلسطينية، فإن الاحتكام لصناديق الاقتراع بات أمراً مسلّماً به. وإن ثمة انسجاماً فلسطينياً واضحاً في هذا «الاضطرار»، لكن تبدو رغبة البعض من التنظيمات بعدم المشاركة، أو الحديث الأولي عن عدم المشاركة، أمراً غير مفهوم ولا يمكن وضعه ضمن نسق المنطق الوطني العام. وهنا الإشارة إلى ما صدر حول رغبة البعض بعدم المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة التي صار الذهاب إليها مسألة وقت وموعد. وربما أن مثل المقاطعة تلك التي لن تؤثر كثيراً على العملية الانتخابية بحاجة لمراجعة جادة.
دائماً ما بدت الانتخابات الفلسطينية أمراً إشكالياً في السياق الفلسطيني بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994. فقد شهدت انتخابات العام 1996 وهي الأولى، خلافاً كبيراً ومقاطعة واسعة من التنظيمات الفلسطينية الكبرى منها والصغرى؛ بحجة أن هذه الانتخابات هي لاختيار أعضاء المجلس التشريعي المنبثق عن اتفاقية أوسلو «الملعونة»، وأن المشاركة في هذه الانتخابات خيانة بل محرّمة شرعاً كما ذهبت التنظيمات الإسلامية وعلى رأسها «حماس» للقول. ومع هذا شاركت شخصيات قريبة من تلك التنظيمات في تلك الانتخابات، وحظيت بدعم خفي على صعيد المحافظات من أنصارها، ما أمّن لبعضها دخول المجلس وتجاوز بعض مرشحي «فتح» في مناطقهم. الأمر ذاته فيما يتعلق بمقاطعة الجبهتين الشعبية والديمقراطية لانتخابات العام 1996.
ثم اختلف الوضع في العام 2006، حيث شاركت «حماس» في الانتخابات كما شاركت الجبهتان. وتحولت المشاركة بالانتخابات من حرام شرعاً إلى واجب شرعي يأثم من لا يقوم به. يصعب فهم التحولات التي يمكن أن يسوقها هذا الانتقال من تحريم المشاركة إلى تجريم المقاطعة. وعلى نفس الدرب، بات للجبهتين ممثلون في برلمان أوسلو «الخائنة»، أيضاً يصعب فهم التحول من كون المجلس مجلس أوسلو إلى كونه مجلس الشعب الذي يعبر عن إرادته. ومع هذا فإن هذه التحولات عكست حقيقة واحدة أن المؤسسات التي أفرزتها أوسلو (لنضع جانباً كيف ننظر لها) لم تكن لتزول وتختفي عن الوجود. السلطة الوطنية الفلسطينية لم توجد بقرار إسرائيلي، بل كانت تعبيراً عن إرادة حرة للشعب الفلسطيني وجزءاً من رؤية سياسية للقيادة الفلسطينية. صحيح أن تحقيقها بشكل فعلي لم يكن ليتحقق لولا عملية السلام التي انطلقت بين منظمة التحرير ودولة الاحتلال، ولكن حتى في كل أعراف الشعوب وخبراتها، فإن هذا منطق يمكن تقبّله. أي أن تعقد حركات التحرير اتفاقيات مع الدول الاستعمارية من أجل استرداد الحقوق كاملة أو جزء منها. عموماً، الخلاصة، لم يكن وجود السلطة مؤقتاً، بل ثبت أنها ستظل كياناً يعبر عن جزء من إرادة الشعب الفلسطيني. لذا فإن المشاركة في الانتخابات التي تقود إلى تكوين أجسامها التشريعية ليست خيانة ولا كفراً.
هذا كان الاستنتاج الذي توصل له كل خصوم «فتح» بعد سنوات من مقاطعة مؤسسات السلطة. بل صار التنافس على السيطرة على هذه المؤسسات سواء بالانتخاب أو بالانقلاب أمراً محموداً ويمكن تبريره. وعليه ومع الوقت اكتسبت المؤسسات التمثيلية للسلطة الجديدة المزيد من الشرعية. ببساطة لأنه ورغم كل شيء فإن ثمة حقيقة باتت دامغة تقول: إن هذه المؤسسات هي ملك للشعب الفلسطيني، وليست نتيجة اتفاق لم يعد موجود فعلياً مع دولة الاحتلال. من هنا، فإن السلطة على كل علّاتها هي التجسيد المبدئي والتشكيل الأولي للدولة الفلسطينية المرتقبة. قد لا تكون هذه الدولة هي مبتغى الحلم الفلسطيني، لكنها خطوة مهمة في طريقه.
والأمر كذلك، تبدو مواقف البعض الآن في مقاطعة الانتخابات في غير سياق مسار الحياة السياسية الفلسطينية. لا يمكن للزمن أن يرجع للوراء. كما لا يمكن لأحد أن يصر على أن يعيد عقارب الساعة للخلف لأنه لم يستوعب بعد حقيقة ما جرى. قد لا يتفق البعض مع «أوسلو»، وليس مطلوباً من الجميع أن يصفق لها، وقد لا يتفق مع مخرجات العملية السلمية، ومن المرعب أن يتفق الجميع على شيء، ولكن ثمة حقائق لا يمكن نكرانها، فالسلطة الفلسطينية باتت هي المؤسسة السياسية التي تدير حياة الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة. قد تكون إدارة ناقصة، وغير ناضجة، وقد تكون محكومة بكثير من مفاصلها من قبل الأمر الواقع الذي يشكله الاحتلال، لكنها تعبر مع كل هذا عن إرادة سياسية حقيقية.. إرادة مصدرها الشعب. وأساس أي تحول سياسي أن يتم تغيير الواقع غير المرغوب إلى واقع مرغوب. هذا، وعلى اعتبار أن هناك من لا يريد السلطة، فعليه أن يسعى من أجل أن تكون هذه السلطة سلطة الشعب لا سلطة اتفاق كما يزعم. يبدو من العبث الآن، وبعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن على تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، النقاش في هذا المربع؛ لأن الأمر يعكس سوء فهم لطبيعة المنجز الوطني، وعدم بذل الجهد من أجل الوقوف أمام المصلحة العليا للشعب. حيث يجب أن ينصب التفكير على: كيف يمكن لنا تحصين ما تم تحقيقه وتحريره من أي التزام إن كنا نعتقد بوجوده.
لا يوجد شعب في العالم ينظر لقيامه باختيار ممثليه للهيئات التشريعية، على محدودية عملها ربما وسيادتها، بوصفه إرادة خارجية مفروضة عليه. إن العيش في تناقضات الماضي لا يساعد في دفع العجلة إلى الأمام. هذه الانتخابات فرصة وربما الفرصة المتاحة الوحيدة من أجل رأب الصدع الداخلي، وعلى أقل تقدير يجب أن يكون هذا وحده كافياً حتى ينظر الجميع للانتخابات بأنها واجب وليست مجرد حق لجموع المواطنين.