سياسة أميركا في الشرق الأوسط خطيرة وعفا عليها الزمن

حجم الخط

فورين أفيرز – بقلم كريس مورفي

في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه في أعقاب أزمتي النفط عامي 1973 و1979، وصف الرئيس الأميركي جيمي كارتر بعبارات خطيرة مخاطر فقدان الوصول إلى نفط الشرق الأوسط. وقال إن “أيّ محاولة من قبل أيّ قوّة خارجيّة للسيطرة على منطقة الخليج، ستعتبر اعتداء على المصالح الحيويّة للولايات المتحدة الأميركيّة.. وسيتمّ صدّ مثل هذا الهجوم بأيّ وسيلة ضروريّة بما في ذلك القوّة العسكريّة”. أصبح هذا التعهد معروفاً باسم “مبدأ كارتر” وظلّ سمة مميّزة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ ذلك الحين.

حين أدلى كارتر بهذا التصريح كانت الولايات المتحدة تعتمد بشكل كبير على واردات النفط لتزويد اقتصادها بالطاقة وكان 29% من هذا النفط يأتي من الخليج. حتى بعد عقدين من الزمن لم يتغيّر شيء يذكر: في عام 2001، كانت الولايات المتحدة لا تزال تستورد 29% من نفطها من الخليج. لكننا لم نعد في عام 1980 أو 2001 بعد الآن. واليوم تنتج الولايات المتحدة نفس القدر من النفط الذي تحصل عليه من الخارج وتستورد 13% فقط من دول الخليج. تستورد الولايات المتحدة الآن نفطاً من المكسيك أكثر مما تستورده من السعوديّة.

ومع ذلك بالرغم من أن الأساس المنطقي لما يسمى عقيدة كارتر قد عفا عليه الزمن، إلا أنه يستمر في تشكيل نهج الولايات المتحدة تجاه الخليج – وهو رمز لفشل أوسع لسياسة الولايات المتحدة المتمثلة بتغييرات أوسع للمصالح الأميركيّة في المنطقة منذ الثمانينيات. يجب على الرئيس جو بايدن الاعتراف بالوقائع الجديدة وإعادة ضبط علاقات الولايات المتحدة في الخليج بطريقة تعزز القيم الأميركيّة وتبقي واشنطن بعيدة عن التشابكات الخارجيّة غير الضروريّة وتعطي الأولويّة للسلام والاستقرار الإقليميين.

هناك عدد لا يحصى من الأسباب لإقامة علاقات قويّة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي – البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات. إن قرارات البحرين والإمارات لإقامة علاقات رسميّة مع “إسرائيل” هي علامة واضحة على التأثير الإيجابي الذي يمكن أن تمارسه هذه الدول. تلعب الكويت وعمان أدواراً قويّة في التوسط في النزاعات الإقليميّة. إن شراكات الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب مع دول مجلس التعاون الخليجي بالرغم من كونها معيبة في كثير من الأحيان، لا تزال مهمة حيث تمتلك هذه الحكومات غالباً معلومات عن الشبكات المتطرفة التي لا تستطيع الاستخبارات الأميركيّة جمعها بمفردها.

وتقوم الولايات المتحدة بتوسيع علاقاتها الشعبيّة مع المنطقة: اليوم هناك عشرات الآلاف من الطلاب من الخليج يدرسون في الكليات والجامعات الأميركيّة. وبناءً على ذلك يجب على الولايات المتحدة أن توضح لحلفائها الخليجيين أن هدفها ليس الانسحاب من المنطقة، ولكن بدلاً من ذلك إنشاء رابط أكثر موضوعية واستقراراً بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي.

لكن حان الوقت للاعتراف بوجود خلل مركزي في نهج الولايات المتحدة الحالي تجاه الخليج: أهم أولويتين لمجلس التعاون الخليجي في العلاقة – الحفاظ على المساعدة العسكرية الأميركية لخوض حروب إقليمية بالوكالة والحفاظ على الصمت الأميركي تجاه السياسات الداخلية لدوله. القمع – سيدمر على المدى الطويل دول مجلس التعاون الخليجي نفسها. ويجب أن يكون هدف الولايات المتحدة هو استبدال هذا الأساس المكسور بنظام جديد يدعم خليجاً مسالماً مليئاً باقتصاديات وطنيّة مستقرة ومتنوعة وحكومات متجاوبة – مستقبل من النوع الذي يدعي قادة مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بقوّة أن منطقة الخليج تسعى إليه. إن علاقة بين الولايات المتحدة والخليج مبنية على العلاقات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة والحوكمة بدلاً من مجرد شراكات أمنيّة وحشيّة سوف تعود بالفائدة على مصالح الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

تجنب حروب الوكالة

الخطوة الأولى هي أن تنفصل الولايات المتحدة عن حروب دول مجلس التعاون الخليجي بالوكالة مع إيران. الحكومة الإيرانيّة هي خصم للولايات المتحدة لكن سلسلة الصراعات الساخنة والباردة في المنطقة – في العراق ولبنان وسوريا واليمن – عملت ببساطة على تعزيز نفوذ إيران وخلق مستويات كارثية من المعاناة الإنسانية. لا شك أن الانسحاب من التدخل الأميركي في أماكن مثل سوريا واليمن سيسبب ذعراً فورياً في الخليج. ومع ذلك  فإن التكاليف الهائلة للاعتقاد الخاطئ بأن الولايات المتحدة يمكنها توجيه النتائج بشكل غير مباشر في سوريا واليمن باتت واضحة تماماً.

في كلا المسرحين لم يكن التدخل العسكري الفاتر للولايات المتحدة جوهريّاًبما يكفي لقلب التوازن وخدم بدلاً من ذلك إطالة أمد النزاعات. تعاني واشنطن من ثقة متغطرسة في قدرتها على تحقيق أهداف سياسيّة من خلال التدخلات العسكريّة. بدلاً من ذلك كان التأثير الأكثر أهمية للمغامرات الأميركيّة الأخيرة في الشرق الأوسط هو تأجيج الحروب الدائمة التي تشجع الجماعات المتطرفة وتسمح للمشاعر المعادية لأميركا بالنمو.

على الرغم من أن الولايات المتحدة يجب أن تحتفظ بشراكاتها الأمنية مع دول الخليج إلا أن البصمة الأميركيّة يجب أن تكون أصغر. قبل حرب الخليج كانت الولايات المتحدة قادرة على حماية مصالحها في المنطقة من دون قواعد عسكريّة ضخمة في البحرين والكويت وقطر والسعودية ومن دون مليارات من مبيعات الأسلحة السنويّة للدول نفسها.

يتصرّف مجتمع السياسة الخارجيّة في واشنطن كما لو أن هذا الوجود العسكري الضخم أصبح الآن إلزامياً لحماية المصالح الأميركيّة، على الرغم من أنه لم يكن كذلك قبل إنشاء الدولة الأمنية بعد 11 سبتمبر. القواعد الأميركيّة مكلفة ما يجعل التركيز بعيداً عن المسارح ذات الأهمية المتزايدة مثل أفريقيا وآسيا؛ إنهم يمارسون الضغط على الولايات المتحدة لتجاهل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خشية أن تعرض هذه الانتقادات وجود القوات الأميركية للخطر؛ وهي تبرز كأهداف عسكريّة ومادة دعاية لإيران والقاعدة وداعش.

بينما يجري وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مراجعة عالميّة للوضع العسكري للولايات المتحدة يجب على إدارة بايدن التفكير بجديّة في تقليص قواعدها العسكريّة في المنطقة. إن إعادة النظر في تكاليف وفوائد تأسيس الأسطول الخامس في البحرين ستكون بداية جيدة حيث أصبح الدور الهائل للولايات المتحدة مقلقاً بالرغم من أن الأمر لا يستحق.

أخيرًا على الرغم من أن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في بيع المعدات العسكريّة لشركائها، يجب على واشنطن التأكد من أنها تبيع أسلحة دفاعيّة حقيقيّة. اليوم يتمّ استخدام الكثير من الأسلحة الأميركيّة بشكل غير مسؤول وفي انتهاك للقانون الدولي. البعض الآخر مثل بيع طائرات “ريبر” بدون طيار التي تمّ الإعلان عنها مؤخراً للإمارات، يُغذي سباق تسلح إقليمياً يتعارض مع المصالح الأمنيّة الأميركية. مع تراجعها عن أنظمة ذات قدرات هجوميّة أكثر يجب أن تظل الولايات المتحدة على استعداد لتقديم أسلحة دفاعية أكثر تقدمًا مثل تكنولوجيا الصواريخ الدفاعية الطرفية عالية الارتفاع (ثاد) التي تناسب التهديدات الأمنيّة الحقيقيّة في الخليج.

إذا فعلت واشنطن هذه الامور فستشتكي السعودية والإمارات لا محالة من أن الولايات المتحدة تتخلى عنهما وتمكنان إيران. تتمثل مهمة إدارة بايدن في إقناعهما بوجود بديل للمنافسة العسكريّة التي لا تنتهي مع طهران. يمكن لحوار أمنيّ إقليميّ يشمل جميع الأطراف أن يحلّ محل سباق التسلح والحروب بالوكالة. قد يبدو هذا وكأنه محض خيال لكنه بعيد كل البعد عن ذلك.

كانت البراعم الخضراء لهذا الحوار تظهر منذ سنوات ويمكن للقيادة الأميركيّة أن تبدأ في إنشاء هيكل للانفراج. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تمنح الإماراتيين أو السعوديين حق النقض (الفيتو) على اتفاقية نوويّة ثنائيّة مع إيران، فإن الحوار الإقليمي من شأنه أن يربط دول الخليج بشكل أقرب إلى الولايات المتحدة بشأن السياسة الإيرانيّة ومن المرجح أن يعطي مجلس التعاون الخليجي مساهمة أكبر في أيّ اتفاق مستقبلي.

اختبار خفض التصعيد

إن إدارة بايدن في وضع أفضل لاختبار استعداد المنطقة لهذا النوع من التهدئة في اليمن. القطع المفقودة من ضغوط ذات مغزى ومحاور موثوق به تتحرك الآن إلى موقعها مع إنهاء إدارة بايدن دعم الولايات المتحدة للعمليّات الهجوميّة وتعيين مبعوث خاص جديد لدعم عملية السلام التابعة للأمم المتحدة. الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يمكنها تحريك الكرة إلى الأمام. إذا تمكنت واشنطن من إيجاد طريق نحو السلام في اليمن حيث تتعايش حكومة يمنيّة شاملة مع قادة الحوثيين وتعيد البلاد بناءها بمساعدة دولية فإن ذلك سيكون على مفهوم حوار أوسع.

يجب أن يكون وقف التصعيد جذاباً بشدة لشركاء الولايات المتحدة في الخليج. انخفاض عائدات النفط يعني أن هذه الدول ستحتاج قريباً إلى اتخاذ خيارات صعبة بين الاستثمار في الإصلاحات الاقتصاديّة وخوض الحروب في البلدان الأجنبيّة. بالنظر إلى هذه الصراعات المستمرة وسيطرة الدولة على الاقتصادات المحليّة فإن جذب الاستثمار الأجنبي الهادف إلى المنطقة هو إلى حد كبير أمر خيالي.

بالنسبة للولايات المتحدة هناك فائدة أخرى لتقليل التوترات بين الخليج وإيران تتمثل في حوافز أقلّ للمصالح الخليجيّة لنشر الإسلام الوهابي في جميع أنحاء العالم الإسلامي. غالباً ما تشكل هذه العلامة التجاريّة المتشددة وغير المتسامحة للإسلام اللبنات الأساسيّة للإيديولوجيا المتطرفة، ويُغذي الخلاف الخليجي الإيراني تصديرها (إلى جانب نظيرتها الشيعية الثوريّة).

يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تقود صفقة أكثر صعوبة مع دول الخليج بشأن قضايا حقوق الإنسان. في أعقاب هجمات دونالد ترامب على الديمقراطيّة الأميركيّة سيكون من الأهم بالنسبة لبايدن أن يطابق حديثه عن سيادة القانون والحقوق المدنيّة بأفعال في الداخل والخارج. أمام الولايات المتحدة عمل صعب لإعادة بناء دورها العالمي لكن إنهاء نهج واشنطن الذي لا يسمع ولا يرى الشر في الخليج من شأنه أن يساعد.  

ومع ذلك يجب أن تكون محادثة الولايات المتحدة مع دول الخليج حول حقوق الإنسان واقعيّة. لن تصبح هذه البلدان ديمقراطيات حديثة بين عشية وضحاها. ومع ذلك إذا كانت دول الخليج تريد حقاً جذب الاستثمار الدولي فعليها أن تتصدى للحملات القمعيّة الوحشيّة المستمرة ضد المعارضة السياسيّة وغياب سيادة القانون.

الاستثمار الخاص الخارجي الجاد غير محتمل طالما أن هذه الدول تعذب السجناء السياسيين وتحافظ على “نظام وصيّ” صارم يحد من قدرة المرأة على السفر ويضايق المعارضين في الخارج باستمرار. بصراحة يجب على قادة الخليج أن ينظروا إلى توسيع الحقوق السياسيّة على أنها قضيّة وجوديّة. يجب على الولايات المتحدة أن تساعد هذه الأنظمة على فهم أن الصفقة الاجتماعيّة القائمة منذ فترة طويلة المتمثلة في “غياب الضرائب والتمثيل السياسي” لا يمكن أن تستمر.

نظراً لأن النمو السكاني يفوق عائدات النفط فلن تتمكن العائلات المالكة قريباً من تحمّل هذا المردود. بمجرد ضمور الإعانات واستمرار القمع ستندلع عاصفة من الاضطرابات الكارثية. لحسن الحظ هناك نماذج للإصلاح المحدود في الخليج يمكن أن تساعد المتقاعسين في التقدم. ينتخب الكويتيون على سبيل المثال برلماناً يحافظ على بعض الاستقلالية عن العرش. على الرغم من أن هذا بعيد كل البعد عن الديمقراطيّة التشاركيّة الحديثة إلا أنه يقدم بعض النقاط الإرشاديّة التي يمكن أن تنظر إليها الأنظمة القمعيّة.

لا داعي للحرب الباردة

في متابعة هذا المسار الجديد سوف يجادل بعض أتباع الوضع الراهن بأنه إذا دفعت إدارة بايدن عن صفقة صعبة للغاية فسوف يبتعد قادة الخليج عن الولايات المتحدة ويذهبون أكثر باتجاه الصين أو روسيا. هذه الحجة مضللة وهي حجة تلعب على سوء فهم كل من عدم إمكانية الاستغناء عن الاصطفاف العسكري مع الولايات المتحدة واستعداد الصين وروسيا لتسخير أيديهما في سياسات الشرق الأوسط.

هذه ليست الحرب الباردة: ليس لدى روسيا الكثير لتقدمه في المنطقة ومع استمرار انخفاض استخدام النفط العالمي ستتنافس موسكو حتماً مع دول الخليج على المشترين. على الرغم من أن الصين ستواصل البحث عن فرص اقتصاديّة في المنطقة إلا أنها لن تكون راغبة في لعب دور أمني حقيقي في أي وقت في المستقبل القريب. البحريّة الصينيّة لن تقدم المساعدة لدولة خليجيّة تتعرض للهجوم. إذا هدد البحرينيون أو الإماراتيون أو السعوديون بالتحوّل إلى قوى أخرى، يمكن لواشنطن ألا تنطلي عليها خدعهم.

بشكل عام عفا الزمن عن السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة بشكل خطير وهي أداة تمّ ضبطها لعزف أغنيّة لم تعد الأوركسترا تؤديها. لكن ربما تكون السياسة الأميركيّة غير متسقة في الخليج، حيث تغيّرت مصالح الولايات المتحدة ولكن سياستها لم تتغير. لدى بايدن فرصة لإعادة ضبط شراكات واشنطن مع دول الخليج. سيكون الأمر صعباً ومؤلماً ويثير احتجاجاً شديداً. لكن النظام الناتج سيكون مفيداً للطرفين حيث سيعزز المصالح الأميركيّة بينما يقرب دول الخليج من المستقبل التي تزعم أنها تطمح إليه. كما يقولون فإن أكثر المساعي الجديرة بالاهتمام ليست سهلة أبداً.