«كانت أرضنا توصل موجتين بالبحر .. آه يا ستّي ..» بهذا تأوهت حتى انكمشت أكثر تجاعيد وجهها، فيما ارتخى جفناها وارتسمت ابتسامة على فمها الذي حمل الذكريات ورواها لأبنائها وأحفادها. قالت بصوت يشبه الأنين «دمعي يسيل من سبعين حصيدة، ارتوت محاصيلها من موجات عيوني». فتحت عينيها على الطفل الكبير المسجى أمامها، ثم تلفتت حولها دون أن ترى أكوام اللحم التي تراكمت لتعانقه بعد فراق قليل، أيام .. ساعات .. عندما كانوا وراء الباب المقابل، وقالت: «اللي يقلك لا تبكي، قل له حرام عليك وقالوا لي ما تبكي سبعين حول وأنا صدقتهم لحتى ما تحجّر الطين اللي صنعني منه الخالق». «أشوف ولادتي أمامي لربهم .. بكير راجعين، أشوف ولدة عمي من الشام طالعين وع غربة رايحين، يلتقوا مع موجتين غريبة، تسلم عليهم من بلادهم ذيك». «إبْكِن يمّه، الدموع الساكتة تِذَوِب الحجر اللي فيك ومنها تعرف انه من العربي انضحك عليك». «إياك تصدق الغريب لما يعطيك فتافيت ويقلك انا صديق، ما بينهم، لك ..، ما في رفيق. اليوم زفّوك؟ كذبة إياك تصدقها أنا قلبي مفطور عليك، عرسك لغوه بعد ما عمرك خطفوه، يقلبوا في الكلام وع الكذب يلملموا الجروح، أنا ستك وتاريخك وتاريخ ابوي معاي. عيوني شاهدة بيهم وذاكرتي ما تخون زي مدادهم اللي شروه من لحمك ولحمي». نظرت نحو اللحم الباكي وخفضت رأسها لتقول: «ابكوا وإياكم تمنعوا الدمع من أمامهم.. قال شو؟ لحتى ما يشتفوا فيك؟ تحبس الدمع عن هذا الجمال؟». الجميع نظر معها الى احمد المسجّى. هم جفت دموعهم من زمان ما عاد يشوفوا ولا يعرفوا الإنسان اللي فقدوه فيهم .. ومن زمانهم ما يعرفوا الإنسان اللي حولوه فيهم لعقدة على كراسي محشية بريش نعام». «وان جاك الريح من غربه سَدّه ومن بعدها ما تستريح. مَرْتِس شبابيك وحط حراس على باب بيتك وسَرْح كلابك واحفر في الأرض مكان في الغميق وما تترك .. مهما صار .. ما تترك». نادت بيدها ناحية الرجال، اشارت لهم ان يأخذوا الجسد المسجى وقالت لهم: «أمانة في التراب لخالقه رجعوه وبلكي ع النطرة يواسي إخواته الصغار .. لما يجاورهم في خندقهم» ويقول لهم بلغة الراحلين عن الأمان اللي كان يعمله الإنسان لما زمان كان»؟. خرجت الجموع تهلل وأطلقت النساء الزغاريد، بقيت هي مكانها لم تراوحه، لكنها لوحت بيدها لحفيدها مودعة وقالت: «قولولهم عن الزغرودة هي موش غناء ولا فرح هي نَفْس وصرخة تطلع الموت اللي كاتم ع الصدر، قولوهم هذول اللي يكتبوا عنّا قصص ما يفهموها، ذي صرخة الحياة اليّ نبتدي فيها، اللي انتم خطفتوها؛ اللي منّا خطفتوها بالغدر وعلى غفلة؛ اللي منّا شافوكم، اطلقوها لنغيظكم فيها، زغردوا يمّه وخلّي من غربة يسمعكم وخلّوا أهل الجنوب يرتعبوا منكم وليعرفوا هم واولادهم، نحنا نُقُلْهُم انتم اهلكم خنتم ووعودكم زلّت تحت قدمكم، وكذبكم عن القدس فضحكم وربّي ومحمد والعذراء ما نحبكم»