في صيف العام 2019، ترددت تقارير في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تواصل إسرائيل مع دول أخرى من أجل تنظيم هجرة منظمة إليها من قطاع غزة. وفقًا للخطة، بمجرد موافقة الدولة على قبول المهاجرين من قطاع غزة، ستنشئ إسرائيل مطارًا في الجنوب، وتنقل سكان غزة إلى هناك بالحافلات، وتنقلهم إلى بلدهم الجديد. أثار هذا الخبر للحظة السؤال التالي: في القرن الحادي والعشرين، هل انخرطت دولة إسرائيل في عملية الترحيل هذه؟ في الواقع، لم ينكر المسؤولون هذه الخطة الرائعة فحسب، بل أكدتها على الفور وزيرة العدل السابقة، أييليت شاكيد. وقالت شاكيد، في حديث إذاعي، إنها تؤيد تشجيع الهجرة من قطاع غزة، وليس ذلك فحسب، بل هي التي دفعت من أجل ذلك في مجلس الوزراء لسنوات عديدة.
قطرات شحيحة
يتلقى الجمهور في إسرائيل وغزة قطرات من المعلومات حول مضمون تلك الاجتماعات الوزارية التي يتم فيها تقرير مصير سكان قطاع غزة. لا نعرف، على سبيل المثال، ما هي الإجراءات التي اقترحتها الوزيرة شاكيد لتشجيع الهجرة من غزة، وكيف كان رد فعل زملائها الوزراء على أفكارها، لأن محاضر اجتماعات مجلس الوزراء تظل سرية لمدة خمسين عامًا، ويمكننا مراجعتها، ربما، فقط في العام 2069. لكن في السنوات الأخيرة بدأت العديد من البروتوكولات في فتح اجتماعات مجلس الوزراء منذ السنوات الأولى للاحتلال في «المناطق». هذه الوثائق غنية بالمعلومات وتتيح لنا لأول مرة إزالة حجاب السرية عن عملية صنع القرار في الحكومة الإسرائيلية فيما يتعلق بحياة المواطنين الفلسطينيين.
في السنوات الأولى للاحتلال، تعاملت الحكومة الإسرائيلية بشكل مكثف مع محاولات إعادة تشكيل التركيبة السكانية الفلسطينية في قطاع غزة. أولاً، حددت الحكومة لنفسها هدف خفض عدد سكان غزة قدر الإمكان، وكانت أولويتها الرغبة في تشجيع هجرة سكان المخيمات. كان من المفترض أن يؤدي تحقيق هذا الهدف الطموح إلى السماح لإسرائيل بضم قطاع غزة في نهاية المطاف دون الحاجة إلى وجود عدد كبير جدًا من السكان العرب المدنيين. كانت الوسيلة الرئيسية لتشجيع الهجرة من ناحية الحفاظ على وضع اقتصادي غير مستقر، ومن ناحية أخرى تقديم المساعدة لأولئك الذين يريدون المغادرة.
في العام 1968 وحده هاجر 32 ألف فلسطيني بشكل دائم من قطاع غزة، ثمانية في المائة من سكانه في ذلك الوقت، وهذا يدل على أن هذه السياسة كان لها تأثير على الأرض. إذا استمر اتجاه الهجرة لبضع سنوات أخرى، فمن المحتمل أن تتحقق خطة الضم الإسرائيلية أخيرًا. لكن سرعان ما اكتشفت إسرائيل أنه بالإضافة إلى الاعتبارات التي وجهتها، هناك قوى أخرى أثرت في الواقع.
في بداية آب 1968، قررت المملكة الأردنية الهاشمية منع دخول المزيد من سكان غزة لأراضيها، بسبب التوتر الداخلي المتزايد المتزايد في المملكة بين الحكومة الهاشمية والمنظمات الفلسطينية. في الوقت نفسه، كان هناك قفزة في عدد الإجراءات ضد نظام الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
أثار هذا التطور قلق القوى الأمنية، وخوفًا من عدم استقرار الحكم الإسرائيلي في غزة، أوصوا بأن تعكس الحكومة سياستها: بدلاً من الضغط الاقتصادي، تحسين اقتصاد قطاع غزة لقمع العداء لإسرائيل. منذ أن تم إغلاق الطريق إلى الأردن، الوجهة الرئيسية للهجرة من غزة، لم يعد هناك أي جدوى من اتباع سياسة الضغط الاقتصادي. وقيل إن هذه السياسة أدت إلى زيادة عدد المنضمين إلى صفوف المعارضة. وفي الوقت نفسه، حصلت قفزة في العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، ما أثار قلق قواه الأمنية.
حصار غزة
في بداية العام 1969، تبنت الحكومة الإسرائيلية توصية قوات الأمن، ومن بين أمور أخرى، فتحت المجال أمام سكان قطاع غزة للعمل في إسرائيل. أدى هذا القرار إلى عقدين من النمو الاقتصادي في القطاع. ومع ذلك، لم يتم التخلي عن الاعتبارات الديمغرافية تمامًا، بل غيّرت عمليتها فقط: فبدلاً من التركيز على عدد المغادرين بدأت إسرائيل بفحص خصائص المهاجرين، ونتيجة لذلك أصبح الشباب المتعلم الهدف الرئيسي لسياسة تشجيع الهجرة. وهكذا، على سبيل المثال، في مناقشة جرت في نيسان 1969 حول موضوع المناهج في المدارس الثانوية في قطاع غزة لم يكن الوزراء مهتمين بالعلاقة بين التعليم والنجاح الشخصي، ولكن بالعلاقة بين التعليم والهجرة. حتى العام 1967، اتضح لهم أن آلاف الغزيين كانوا يخرجون كل عام للدراسة في جامعات مصر، بعد أن اجتازوا بنجاح امتحانات الثانوية العامة في ذلك البلد. لكن في صيف العام 1967 قامت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية بمصادرة جميع الكتب المدرسية المصرية في غزة، بدعوى أنها مليئة بـ «خطاب الكراهية»، واستبدلت بها الكتب المدرسية الإسرائيلية باللغة العربية. وبذلك، منعت الوزارة نفسها وصول شباب غزة إلى المؤسسات التعليمية في مصر. هكذا شرح وزير الدفاع، موشيه ديان، لزملائه الوزراء مبرر إعادة المنهاج المصري: «إذا نجح الأمر [...] فإن 5000-6000 من هؤلاء الشباب يسافرون على أمل ألا نراهم مرة أخرى. فهذا يمكن وصفه بأنه مخطط للهجرة أؤيده جدا، وجاء تشجيع هجرة الشباب الغزي المتعلم وسيلة لبسط السيطرة الأمنية على الفلسطينيين، بما يتفق مع الاعتبارات الديموغرافية.
تم قبول هذا الاقتراح لتشجيع الهجرة، مثل المقترحات الأخرى. في العام 1970، عاد طلاب المدارس الثانوية في قطاع غزة للدراسة من خلال الكتب المدرسية المصرية، ومرة أخرى أتيحت لهم الفرصة لإجراء امتحانات الثانوية العامة في مصر والهجرة إليها من أجل التعليم العالي. في الواقع، خلال السبعينيات والثمانينيات كان هناك تدفق مستمر من الشباب المتعلم المهاجر من القطاع للدراسة والعمل في العالم العربي. تظهر الوثائق الجديدة التي تم الكشف عنها أنه لا ينبغي فصل هذا الاتجاه الديمغرافي عن سياسة الحكومة الإسرائيلية الواضحة ولكن السرية.
في ضوء النتائج الجديدة من الأرشيف، وقلة المعلومات التي تتدفق إلينا عبر وسائل الإعلام، هناك مجال لطرح أسئلة جديدة حول سياسة إسرائيل في غزة حتى اليوم، بما في ذلك الأسئلة التالية: هل الهجرة من قطاع غزة أحد أهداف حصار غزة وليس مجرد نتيجة؟ هل كان لفتح معبر رفح، العام 2018، والذي أدى إلى هجرة 35 ألف شخص، اعتبارات ديموغرافية؟ وهل المحاولات الأخيرة لتشجيع الهجرة، التي بدأناها، مخصصة للفلسطينيين بشكل عام أم لشريحة معينة من السكان، مثل الطبقة المثقفة؟ ربما لن نعرف الإجابة على هذه الأسئلة في المستقبل القريب، بسبب الستارة الدخانية التي تفرضها المؤسسة الأمنية على هذه القضايا.
عن «موقع منتدى التفكير الإقليمي»