قـرار مـحـكـمـة لاهـاي يـعـيـد الـحـيـاة لـ «الـخـط الأخـضـر»

حجم الخط

بقلم: عميره هاس

 

 


فقط الدول يمكنها الحصول على صلاحية محكمة الجنايات الدولية في لاهاي على أراضيها. لذلك فإن قرار النيابة العامة في المحكمة فتح تحقيق رسمي حول ارتكاب جرائم حرب في "المناطق" الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في العام 1967 لم يكن ممكناً لولا أن الأمم المتحدة قررت قبول طلب م.ت.ف منح مكانة دولة، اسمها فلسطين، بالضبط للمنطقة ذاتها التي احتلت، وللشعب الفلسطيني الذي يعيش فيها.
قرار الامم المتحدة، الذي صدر في 29 تشرين الثاني 2012، استقبل بتثاؤب في أوساط الجمهور. في المقابل، البيان الذي أصدرته، قبل أيام، المدعية في لاهاي استقبل كنسيم منعش. من المرجح أن تستغل حركة "فتح" الصلة ذلك القرار، رغم أنه عندما اختار محمود عباس الطريق الدبلوماسية للحصول على وضع دولة لم يفكر بلاهاي. بالعكس، كان واقعا تحت ضغط الولايات المتحدة والدول الأوروبية من أجل عدم التوجه الى هذا المسار القانوني – الدولي.
كان عباس يأمل بالحصول على مكانة دولة من خلال التهديد، وبعد ذلك ستحسن هذه المكانة مواقف الفلسطينيين واحياء المفاوضات مع إسرائيل حول تطبيق اتفاقات اوسلو.
الربط بين قرار المدعية العامة، باتو بنسودا، ومكانة الدولة يعود ويرسم باللون الاخضر الغامق خط الهدنة من العام 1949، أي أنه يعطي اهمية للخط الأخضر. ومثلما قال للصحيفة أحد الاشخاص الذين واكبوا عملية التوجه الى لاهاي خلال سنين: "لو كنت في تل ابيب وقام بضربي خمسة يهود إسرائيليين ضرباً مبرحاً، ووقف رجال شرطة جانباً، فان هذه الحادثة لن تعرض في لاهاي كجريمة حرب: سأقدم شكوى في شرطة إسرائيل وآمل أن يتم تقديم المهاجمين للمحاكمة. واذا ضربني خمسة يهود إسرائيليين وأنا اقوم بفلاحة ارضي في الضفة الغربية، والجنود وقفوا جانبا وسلطات القانون لم تفعل أي شيء لمعاقبة المهاجمين، أو اذا ضربني خمسة رجال شرطة في العيسوية في شرقي القدس، فان هذا بالتأكيد يمكن أن تشمله جرائم الحرب".
إن اختيار المسار الذي يؤدي الى محكمة الجنايات الدولية يعتبر خطوة جريئة وراديكالية، حتى لو كانت مفهومة ضمنا. على مدى سنوات استخدم الفلسطينيون اختصار "آي.سي.سي" كمرهم مدهش لازالة الألم. المحكمة الدولية اعتبرت فرصة وحيدة تقريبا من اجل ترجيح كفة الميزان لصالح الفلسطينيين، في فترة يسلم فيها العالم اكثر فأكثر بالاحتلال الإسرائيلي، الذي اصبح أكثر عنفا ووقاحة. خلافا للمسار الى لاهاي فان الحصول على "مكانة الدولة المراقبة غير العضو" في الامم المتحدة في 29 تشرين الثاني 2012، اعتبر بادرة حسن نية رمزية، واعلانية بالاساس، أو تمرينا للتنفس الاصطناعي للقيادة. لأنها لم تنجح في تحقيق وعودها لشعبها. في الجناح الراديكالي الفلسطيني فسر الذهاب الى الامم المتحدة من اجل الحصول على مكانة دولة كتنازل عن اللاجئين وتنازل عن حق العودة وقبول الاحتلال الإسرائيلي لسنة 1948 كحقيقة واقعة.
إن من قاموا بتحويل هذا المسار الرمزي والتنازلي، على الاقل في نظر اجزاء من الجمهور الفلسطيني، المتمثل بمكانة دولة، الى خشبة قفز لعملية يمكن أن تقوض الوضع الراهن وتضع إسرائيل في حالة دفاع، هي منظمات حقوق الانسان الفلسطينية. خلال سنوات تنقل مدراء "الحق" و"الضمير" و"الميزان" و"المركز الفلسطيني لحقوق الانسان" بين المحكمة نفسها ومبنى الرئاسة في رام الله، وبين وزارة العدل ودائرة المفاوضات في م.ت.ف. وقد أعدوا ملفات كبيرة فيها مواد مدينة، حسب رأيهم، تدلل على جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل كما يبدو. بفضل عملهم فان امكانية التوجه الى لاهاي كوسيلة نضال تسربت الى داخل الجمهور الفلسطيني، بما في ذلك داخل صفوف "فتح".
بضغط من هذه المنظمات، المحاولة الاولى للسلطة الفلسطينية من اجل التوجه الى لاهاي، أي الاعلان عن أنها تعترف بالصلاحية القضائية لمحكمة الجنايات الدولية في اراضي 1967، كانت في كانون الثاني 2009، فور الهجوم الاول الكبير في غزة في عملية "الرصاص المصبوب". المدعي العام للمحكمة في حينه فحص خلال اكثر من ثلاث سنوات الطلب. وفي نيسان 2012 حكم أنه حسب ميثاق روما (مصدر الصلاحية لنشاط المحكمة)، فقط الدول يمكنها الحصول على الصلاحية القضائية للمحكمة. وقبل بضعة اشهر، في ايلول 2011، فوت عباس فرصة الحصول على مكانة دولة. فقد قرر التوجه الى مجلس الأمن والمطالبة بأن يتم قبول "فلسطين" (في حدود 1967، حسب اعلان الاستقلال لـ م.ت.ف من العام 1988) كعضو في الأمم المتحدة، رغم أنه كان من الواضح أن هذا الطلب لن يقبل. في اوساط مروجي فكرة "لاهاي" كان هناك من قدروا بأن الامر يتعلق برفض متعمد، استهدف تأجيل القرار حول التوجه الى لاهاي، مرة اخرى بسبب ضغط اوروبا وأميركا عليه. مرت سنة أخرى فيها ايضا اقيمت قناة غير مباشرة للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وعندما تبين ايضا أن هذه القناة هي قناة عبثية، مرة اخرى توجه الفلسطينيون الى الامم المتحدة. وفي تشرين الثاني 2012 قررت الجمعية العمومية للامم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين كدولة مراقبة لكن غير عضوة، الى جانب دولة إسرائيل.
بعد مرور سنتين على ذلك اعلن عباس بأنه سيوقع على ميثاق روما، في 31 كانون الاول 2014. الحرب في ذاك الصيف في قطاع غزة والادراك بأن الحكومة الإسرائيلية تخلد بشكل متعمد الوضع المؤقت والمطالبة الشعبية بمبادرة معينة، دفعت عباس الى اختيار المسار الذي هو اكثر اشكالية بالنسبة لإسرائيل. امامه كان هناك تصريح بادر اليه المرحوم صائب عريقات، ووقع عليه رؤساء الفصائل الفلسطينية بأنهم يؤيدون الانضمام الى المحكمة وأنهم مستعدون لتحمل العواقب. أي أنهم هم وأعضاء منظماتهم سيتم استدعاؤهم واستجوابهم، وحتى اعتقالهم بشبهة ارتكاب جرائم حرب. فقط "الجهاد الاسلامي" لم يوقع على هذا البيان.
بعد مرور 12 سنة من الدأب والتصميم، استطاع مدير "الحق"، شعوان جبارين، من القول "كنت على قناعة بأن بنسودا ستصمد امام الضغوط الشديدة التي استخدمت عليها من اجل رفض طلبنا. وكنت على حق. وأنا على قناعة بأنه في نهاية المطاف ستصدر اوامر اعتقال واستدعاء لمشبوهين إسرائيليين بارتكاب جرائم حرب. يمكن ومن الصحيح تقديم دعاوى ضد إسرائيليين آخرين حول ارتكاب جرائم طبقا للميثاق الدولي".

عن "هآرتس"