انتفاضة الكرامة .. نسف المقولات «المعلبة»!!

thumb (2)
حجم الخط

وكأنما نحن أمام المشهد ذاته، "ربيع عربي" تسرع بعض المحللين وعادوا إلى المقولات التقليدية النظرية: الفقراء والعاطلون عن العمل والمهمشون هم العمود الفقري لانتفاضة المواطنين ضد أنظمة الحكم المستبدة، وما هي إلاّ أيام وربما أسابيع، لكي يتضح أن المنتفضين في غالبيتهم هم طلاب وموظفون صغار، عماد الطبقة المتوسطة، وبالكاد شارك بها شباب الأحياء الفقيرة والمهمشة والقرى العشوائية، فشلت ثورة "الطبقة المتوسطة" لا لشيء، إلاّ لأنها افتقدت العامل الحاسم للنجاح: التنظيم وإدارة الصراع وتحديد الأهداف. وها هنا، في انتفاضة الكرامة، نجد تشابهاً "في الكثير من العناصر" مع الربيع العربي، والغريب أن أحداً من الباحثين العرب أو المتابعين الفلسطينيين، منح أهمية كافية للبحث عن "الملف الشخصي" للشهداء الفلسطينيين الذين قادوا باكورة انتفاضة الكرامة، وسائل الإعلام الإسرائيلية، جمعت "بروفيلات" الشهداء وملفاتهم الشخصية وطرحت السؤال الصادم: ما الذي يفسر قيام شاب في مقتبل العمر، يعيش برخاء ويتعلم في مدارس راقية ويتنقل بسهولة، ويقضي إجازاته خارج البلاد في كثير من الأحيان، ما الذي يدفعه ـ أو يدفعها ـ إلى حمل سكين وطعن أول مستوطن بهدف قتله؟! السؤال صادم، لهؤلاء الذين يتملكهم الفهم التقليدي للماركسية واليسار عموماً، من أن الفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل، هم أداة الحراك والثورة كونهم "ليس لديهم ما يخسرونه" وهي مقولة يجب إعادة النظر إليها، بالضبط كما فعل هربرت ماركوس، المنظر الأميركي، اليساري، والذي قال إن الطلاب باتوا أكثر تنظيماً، وان الثورة ستكون على أكتافهم، كبديل عن طبقة البروليتاريا العمالية، التي حسب النظرية الماركسية ـ اللينينية، هم أداة الثورة والتغيير، هربرت ماركوس قال ذلك أثناء عنفوان اليسار وسيطرة الفكر الماركسي ـ اللينيني على الثقافة الدولية، وجاءت أحداث 1968 في فرنسا، وامتداداتها إلى مناطق أوروبية أخرى، لتشير إلى أن ما قاله هربرت ماركوس يتماشى أكثر نسبياً مع التحولات الاقتصادية الاجتماعية. لكن وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي سألت سؤالاً منهجياً صحيحاً، لم تتمكن من أن تتحلى بقدر كاف من هذه المسؤولية عندما أجابت وبتسرع يشبه تسرع المفكرين العرب: إنه الكراهية والتحريض، وراء عمليات الطعن من قبل هذه الفئة من الشباب والشابات الفلسطينيين!! واستعادت وسائل الإعلام الفلسطينية، دراسة نشرها معهد جايتستون، أعدها الباحث الفلسطيني بسام الطويل، واعتقد أن أحداً من المتابعين الفلسطينيين اهتم بهذه الدراسة، لعدم معرفتهم بها ـ بما يفهم كاتب هذه السطور ـ لتشير إلى أن الباحث، زار عائلات الشهداء، وتبين له أن البيئة التي تشمل معظم الشهداء، هي بيئة تتمتع بالرخاء النسبي، وحياة مريحة مقارنة بأقرانهم، ومعظمهم لديهم الهوية التي تسمح لهم بالتنقل بحرية في كل أنحاء البلاد، وكتب بسام الطويل أن هؤلاء في الغالب كانوا يتسوقون من كبريات المولات الإسرائيلية ويلبسون على الموضة الإيطالية (!) إلاّ أن الكاتب نفسه، اصطف إلى جانب الإجابة الإسرائيلية حول سبب "تمرد" هؤلاء على المقولات المعلبة، وحملوا السكاكين لطعن الإسرائيليين، قائلاً، حسب "المصدر الإسرائيلي" إن الجواب يكمن في أن هؤلاء "تم غسل أدمغتهم وتشبعوا من التحريض الذي تقوم به القيادة الفلسطينية ووسائل الإعلام الفلسطينية والتي دفعتهم إلى كره الإسرائيليين واليهود أينما كانوا". وهكذا تخلص بسام الطويل، ومعه وسائل الإعلام الإسرائيلية، من التدقيق في إجابة على السؤال الصادم، إذن هو الكره والتحريض، وبسام الطويل الذي قيل المعهد الذي نشر بحثه، أنه زار عائلات الشهداء، لعله لم يبحث إلاّ في القشور التي رآها ماثلة أمام عينيه من دون أن يبحث أكثر في العمق، وباعتباره باحثاً، فإن الركون على الإجابات الجاهزة المعلبة، هو ما يجعل أي بحث، غير ذي صلة بالبحث!! مع ذلك، فإن السؤال المطروح، يجب أن يظل ماثلاً بحثاً عن إجابات، بالتأكيد هي غير تلك التي تحدث عنها بسام الطويل ووسائل الإعلام الإسرائيلية، وإجابات ترتكز على حقائق الأمر الواقع، وبدون حاجة إلى زيارات خاصة لذوي الشهداء، وإجابات ترتكز على مسارين: لماذا هؤلاء بالذات.. وهو السؤال الصعب، ومرتكز ثان يتلخص في أسباب الانتفاضة الجارية الآن، وهو السؤال الأكثر سهولة، بعيداً عن مقولات الكراهية والتحريض، وبالوصول إلى ما هو مؤكد يتلخص في احتلال دموي جوهره إفناء الآخر الفلسطيني، من خلال مسارات متوازية عديدة، استيطان وتهويد وقتل وحرق ومصادرة وعدم اعتراف بأي حقوق وسلسلة طويلة لا حصر لها يمكن حصرها بهذا النوع من الاحتلال الذي لا يشابه أي احتلال آخر عبر التاريخ الحديث... على الأقل. وإذ تتكرر كلمة "التحريض" على لسان وسائل الإعلام الإسرائيلية، كما هو الأمر بالنسبة لرئيس الحكومة نتنياهو، فإن ما هو غريب حقاً، أن يصل المواطن الفلسطيني إلى حاجة من التحريض ليقوم بثورته ضد الاحتلال، كما لو أنه بحاجة إلى طرف آخر، غير الاحتلال الإسرائيلي، ليشكل سببا في انتفاضته وثورته، ذلك أن الاحتلال بحد ذاته، هو المحرض الطبيعي والآلي وراء كل انتفاضة وكل ثورة.