لم أكن منذ بداية انخراطي في الحركة الوطنية على وفاق مع ياسر عرفات، فقد كنت يساريًا متحمّسًا ضمن مجموعة تريد أن تعمل المستحيل، وإطلاق «ثورة في الثورة»، ولا يعجبها التحريفية السّوفيتية ولا الصينية، وتريد التغيير ولو عن طريق إقامة حزب عابر للتنظيمات.
لم أكن قد التقيت بياسر عرفات، وبالرغم من ذلك فقد صنفني بعض الرفاق الجدد كعرفاتي، وهذا حزّ في نفسي كثيرًا، لأنني اختلفت معه بشدة في مختلف المراحل، ودعوت في مستهل نشاطي السياسي إلى تغيير القيادة والسياسة التي تسير عليها. واختلفت مع أبو عمار، خصوصًا بعد توقيع «اتفاق أوسلو»، ولكن من دون تخوين، وعلى أساس أنه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وأننا نختلف معه ولا نختلف عليه، والسبب أنني كنت أطرح رأيًا مخالفًا لا يتفق مع الرأي السائد داخل الحزب، أو في إطار ما تم تسميته النظام السياسي الفلسطيني، وذلك وفاءً مني لقناعات عميقة لدي، وإيمانًا أنه من دون خلافات، وتجديد ونقد ونقد ذاتي، واستعداد دائم لمواكبة الخبرات والمستجدات والمتغيرات والاستفادة منها؛ لا يمكن التطور وتحقيق الفاعلية المطلوبة لتحقيق أهدافنا وحقوقنا الوطنية.
أذكر أنني في إحدى المرات كتبت مقالا بعد الخروج من بيروت ونشرته في مجلة «الهدف»، في الوقت الذي كان فيه الجدال محتدمًا بين تيارين مختلفين في الساحة الفلسطينية. ملخصه أننا يجب أن نركز - نحن المعارضين للقيادة الفلسطينية - على إسقاط نهج الانحراف بدلا من الجمع كما كان مطروحًا ما بين إسقاط النهج ورموزه، في نفس الوقت الذي نطالب فيه بتحقيق الوحدة الوطنية، لأنه كيف يمكن تحقيق الوحدة مع من نريد إسقاطه.
على إثر هذا المقال، استدعاني قائد كبير احترمه كثيرًا، وقال لي ما الذي كتبته! وتساءل: هل هذا يجسد موقف الجبهة؟ فقلت له: إنني لا أزعم أنه موقف الجبهة. فقال لي: كيف تكون عضوًا ولا تلتزم بمواقف الجبهة؟ فأجبته: إن الالتزام بحزب لا يعني عبودية وعدم ترك حتى هامش للتعبير عن الاجتهادات الشخصية، وإنما التقاء في التوجه العام وانضباط للقرار بعد صدوره بعد دراسته بعمق والحوار حوله، وأوضحت له أن ماركس وأنجلز ولينين أبو التنظيم الحديدي كان يطرح وجهة نظره ويناظر رفاقه ويناظرونه في جريدة الحزب، التي كانت مثلما وصفت بمنفاخ حدادة هائل قادر على حرق السهل كله. كما أضفت أن «الهدف» التي أسسها غسان كنفاني كانت تزخر بالكتابات ذات الاجتهادات المتنوعة التي عبر كُتَّابها عن وجهات نظرهم الشخصية.
اتهامي بالعرفاتية إلى جانب بعض من كانوا، أو لم يكونوا، أو أصبحوا بعد ذلك عرفاتيين؛ جاء من بعض الذين لم يميزوا معنى الجمع ما بين الوحدة والصراع في نفس الوقت، أو من المتضررين من الأفكار التي أطرحها، والخشية من اعتمادها من قيادة التنظيم، وذلك بالرغم من أنني لم أكن قد التقيت بأبو عمار إلا من مسافة بعيدة، حيث شاهدته في مهرجان جماهيري، أو أثناء الأعياد الوطنية التي شهدتها «جمهورية الفاكهاني» في بيروت أثناء احتفالات الثورة الفلسطينية بانطلاقتها، التي كانت تصادف انطلاقة حركة فتح في الفاتح من كانون الثاني من كل عام.
أول مرة التقيت بياسر عرفات كانت بعد عودته إلى طرابلس بعد الخروج من لبنان، وفي ذروة الحرب التي شنت ضده. كنت قادمًا أنا (نصري عبد الرحمن) وزميلي عماد الرحايمة (عريب الرنتاوي) ومصور وسائق من دمشق، وهذا كان بحد ذاته عملًا فدائيًا، لأن النظام السوري وجماعاته كانوا يحاصرونه بهدف القضاء عليه.
كنا ضمن بعثة مجلة «الهدف» الناطقة باسم الجبهة الشعبية التي رفضت الحرب ولكنها كانت ترتبط بعلاقات حسنة مع نظام حافظ الأسد، وواجهنا الموت المحتم والصواريخ تطير فوق رؤوسنا إلى أن وصلنا إلى مقره لإجراء مقابلة معه؛ تعبيرًا عن تضامننا معه، ورفضًا للحرب التي شنت ضده. أجرينا معه مقابلة مهمة جدًا، بل تاريخية، كانت مليئة بالأسئلة المحرجة وإثارة القضايا الحساسة، فنحن كنا نريد أن نحمي ظهرنا عند عودتنا إلى رفاقنا، وتخيلنا أننا عدنا بسبق صحافي، وستُنشر المقابلة كاملة في العدد القادم، وستكون صورة «الختيار» على الغلاف. لنفاجأ بأن هناك في القيادة من يعارض الزيارة وإجراء المقابلة، ويصرّ على عدم نشرها، في المقابل كان هناك من يؤيدها، وانتهى الأمر بمساومة تضمنت نشر بنط صغير (عنوان على زاوية الغلاف)، واختصار المقابلة.
لعل هذه المقابلة جعلت أبو عمار - أكثر من أي شيء - آخر يقدرني ويتحمل نقدي الشديد لسياسته وإدارته التي وصلت أحيانًا إلى وصف عهده بالديكتاتورية والإفساد. وكما قال لي أكرم هنية، رئيس تحرير جريدة «الأيام»: إن أبو عمار كان عندما تعرض عليه تقارير تتضمن ما أكتبه من نقد ومعارضة يبتسم بدلًا من أن يغضب، لدرجة أنهم تصوروا أن هذا الانتقاد أمر مدبر ومتفق عليه بيننا أنا وأكرم وبينه.
ما أثلج صدري أن أكثر من صديق قال لي، أذكر منهم محمد مشارقة (أبو النور) الذي كان محاصرًا مع أبو عمار في المقاطعة، إنه سمعه عندما ذكر اسمي يقول إن هذا شخص هواه فلسطيني ولا يتبع لأحد، ويكتب ما في رأسه من دون إملاءات من أحد وليس لحساب أحد.
المرة الثانية التي التقيت فيها عرفات كانت أثناء حضوري لأول مرة اجتماعًا للمجلس المركزي عقد عشية اندلاع الانتفاضة الشعبية، وكنت حينها عضوًا في وفد الجبهة، وتم اختياري للمشاركة لأن الموضوع الرئيسي على جدول أعمال ذلك الاجتماع كان الإصلاح الديمقراطي في منظمة التحرير، وقد كتبت وقتها دراسة نُشِرَت في عشرة أجزاء في مجلة «الهدف»؛ لذا يمكن أن يساهم حضوري في إغناء الحوار، وخصوصًا أن التوقعات كانت بأن الدورة ستشهد كسر عظم حول الإصلاح.
وبما أنها المرة الأولى التي أشارك فيها في اجتماع قيادي على هذا المستوى، فقد حضرت كل الجلسات، وواظبت أكثر من أي عضو آخر، لأنني كنت أريد أن أسمع وأستفيد من كل لحظة وكل فكرة ومعلومة، وأترقب متى ستبدأ معركة الإصلاح، ولكن الدورة انتهت والمعركة لم تبدأ، ولكن عندما تستمع إلى راديو «مونت كارلو» كنت تعتقد أن حربًا ضروسًا تدور في المجلس المركزي، وعندما عدت إلى دمشق استدعاني «الحكيم»، لأنه لم يشارك في الدورة، وأراد أن يستمع لشخص يثق به، فقال لي: ما رأيك في المعركة التي دارت في «المركزي» حول الإصلاح؟ فأجبته: لم تكن هناك معركة ولا ما يحزنون، فالمعركة كانت في الإعلام، أما في الاجتماعات والعلاقات ما بين القيادات فكانت «سمن على عسل»، ولم نشهد فيها احتدامًا بين اليمين المنحرف واليسار المتطرف، بين أصحاب القبول والرفض. وقلت للحكيم: إنني صدمت بما رأيت، وكنت أتمنى أن نتقاتل في الاجتماعات وأن نبدو موحدين في الإعلام وأمام شعبنا.
كان حضوري لاجتماع «المركزي» فرصة تاريخية لأرى ما هي المؤسسة الفلسطينية، وكانت لحظة فارقة في حياتي لم أعد بعدها مثلما كنت قبلها. كما كان فرصة لأرى كيف يعمل ويقود أبو عمار، فكان يخرج أثناء الاجتماعات أكثر من مرة لبعض الوقت، ويعود مسرعًا ويوقع الأوراق أو يقرأها، وينقضّ فجأة على شخص ألقى فكرة أو رأيًا لم يعجبه، وكانت فريسته في إحدى المرات قياديًا يساريًا سوفييتيًا تحدث حول أهمية الاعتراف بقرار 242 وبإسرائيل، فنال من أبو عمار ما لا يعجبه من نقد وتقريع. وأدلى أبو جهاد في الاجتماع تقريرًا بدا فيه واضحًا أن هناك شيئًا ما يلوح في الأفق لم نكن نعرف أنه الانتفاضة، ولكن ما عرضه أبو جهاد يؤشر لما أتى بوضوح شديد.
عندما عدت إلى الوطن أواخر العام 1994، سافرت من نابلس إلى غزة بصحبة أخي سامر صبيحة اليوم التالي الذي صادف عيد الميلاد المجيد، وذهبنا مباشرة إلى المنتدى (مقر الرئيس) وطلبت لقاءه، فسألني الحارس الذي لا يعرفني: هل تريد التقاط صورة مع «الختيار»؟ فأجبته: إنني أريد أن أتناقش معه. فاستغرب! وعاد ومعه بعض الأشخاص الذين عرفوني، وقالوا لي: أهلًا وسهلًا ... عليك أن تنتظر لبعض الوقت حتى تدخل للقاء الرئيس. وبعد ساعة ونصف من الانتظار دخلنا إلى غرفته وكان يصلي منفردًا، وبقينا معه في الغرفة بلا حُرّاس، ما أثار استهجاننا أنا وأخي. وتساءلنا: كيف يتركوننا معه وحدنا، ولو كان ذلك لأنهم يعرفونني، لكنهم لا يعرفون أخي ... أين الأمن المسؤول عن حماية الرئيس؟
بعد التحية، بادرني وقال أين المذكرة؟ متصورًا أنني أتيت أطلب شيئًا، فقلت له إنني جئت لأتحاور حول «اتفاق أوسلو»، فرحب واستمع لملاحظاتي بكل صدر رحب وأضاف عليها ملاحظات من عنده، وهذا أكد لي أن أوسلو بالنسبة له سياسة وليست أيديولوجيا، ووسيلة لتحقيق غاية وليست الغاية، بالرغم من أن التوقيع عليه كان خطأ فادحًا، وعندما أدرك خطأه قال لقد خدعونا وادخلونا الفخ، وعلينا أن نشطب كل ما سبق ونبدأ من الصفر من جديد، ولكنه أدرك ذلك بعد فوات الأوان. لا يغير ذلك من أنه كان لديه هدف ويريد تحقيقه ومؤمن بإمكانية تحقيقه، ومستعد لدفع حياته على طريق تحقيقه، وخشي من أن يكون مصيره مثل سابقه المفتي الحاج أمين الحسيني الذي قضى قبل أن يحقق شيئًا. وكان آخر ما ردده عرفات «يريدونني أسيرًا أو طريدًا ... وأقول لهم: شهيدًا شهيدًا شهيدًا».
وعندما ذهبت لأول مرة ضمن وفد من عائلة المصري لتهنئته بحلول أحد الأعياد، وعندما هَمّ العم أبو ربيح بتقديمي له، بادره بالقول: أتريد أن تعرفني بهاني «بحب أقلّك إنه هاني منا قبل وأكثر ما يكون فردًا من عائلة المصري»، وهذا الأمر أشعرني بأنني لم أضيع حياتي في النضال هدرًا. وفي لقاء آخر طلبت من أكرم هنية أن يتوسط لي لكي أعين مستشارًا للرئيس وذلك في العام 2003، وتوقع صعوبة ذلك لأن هناك من لن يرضيه وجود شخص مثلي قريبًا منه، وأثناء لقائي به طلب مني القبول بأن أعين وكيلا لوزارة الإعلام، وأصررت انا على موقفي المطالَب بأن أعين مستشارًا، وهذا دفع بعض الحضور للتساؤل: لماذا أرفض أن أصبح وكيلا وأنا مدير عام وأريد أن أصبح مستشارًا؟ وَفَاتَهم أن الوكيل مثل الوزير عليه أن يلتزم ويدافع عن سياسة الحكومة وعن قراراتها، أما المدير العام فليس ملزمًا بذلك. كما أنني لا أريد أن يمارس أبو عمار هوايته المعتادة باللعب على الخلافات بين الوزير والوكيل، وبعدها طلبت تقاعدًا مبكرًا من السلطة لأنني وجدت من الصعوبة بمكان أن ترفض واقع السلطة والتزاماتها وسلوكها وتكون موظفًا فيها، وأن تكون كاتبًا من المفترض أن يجسد دور الرائد الذي لا يكذب أهله.
ياسر عرفات له ما له وعليه ما عليه، ولكنه باني الهوية الوطنية الفلسطينية التي تجسدت في كيان وطني جامع، وجعل للفلسطينيين عنوانًا ومؤسسة جامعة، وكلما طال غيابه يزداد الحنين إليه.
كم نفتقد إلى زعامته في هذه الظروف العصيبة، لا سيّما في ظل الموجة الانتفاضة الحالية الباسلة التي انطلقت يتيمة بلا أب، ولا تزال بالرغم من دخول أسبوعها الثامن بلا أب، وهذا لا يمكن أن يحدث لو كان ياسر عرفات موجودًا.
أختم هذا المقال بما قاله لي جورج حبش حكيم الثورة أكثر من مرة وهو في ذروة خلافه مع منافسه على قيادة الشعب الفلسطيني: «إن عرفات قد يخطئ، وقد يرتكب حتى أخطاء فادحة، ولكنني واثق من أنه لا يمكن أن يخون».