فلسفة الفكرة تأتي في الظّرف والتّوقيت المُناسب لتَخرج عن المفاهِيم السّائدة وعناصرها وأبجديّاتها لتضع أَبجديات وعناصِر أُخرى لحل أزمة أو مُشكل أو صِراع، ولذلك أتت فِكرة الثورة والكِفاح المُسلح ومُترادفاته المقاوِمَة لتضع مُعالجات لأزمة النّكبة وولادة كيان إستئصالي عُنصري عُدواني على الأرض الفلسطينية، كانت الفِكرة للخُروج من أَزمات أَنظمة قومية وأُخرى إسلامية تضع برامج كلاسيكية من خِلال منظومة عسكرية لاستئصال هذا الكيان، وصراع حزبي أيديولوجي كُلٌ منه له أيديولوجيته الخاصّة في التنظير والسّلوك أضفَت انقساماً على قُوى وقُدرات المُجتمع، وما بين الوِحدة العربية أولاً لتحرير فلسطين أو الإشتراكية أولاً ثم الوحدة كسبيل وطريق لتحرير فلسطين، هكذا كانت مناخات الفِكر والثّقافة الوطنية الفلسطينية، ولكن بعض النخب الفلسطينية من كافة الاحزاب تأثرت بالثّورات العالمية كالثورة الفيتنامية والجزائرية وثورات في إفريقيا، فامتزجت الفكرة مع الواقِع الدّولي والحرب البارِدة بين قُطبين في العالم.
إنطلقت الثّورة بعمليّة عيلبون في عام 1965م وكأنّها تتنبّأ بهزيمة النِّظام العربي الرسمي أمام المشروع الصّهيوني، ووضَعَت أدبيّاتها ومُنطلقاتها وأهدافها لتضع مُعالجات لأَزمة الّلجوء ووكالة الغوث، والوصاية والمشروع الصهيوني من خلال إعلان الثّورة ببيانها العَسكري الأوّل الذي يحمل شعار وأبجديات "العاصفة" تحت إطار حركة التّحرير الوَطني الفِلسطيني، ولم يكُن البيان الأوّل بيان سِياسي يُعلن عن تنظيم بل كان بياناً عسكرياً يعتنِق الكِفاح المُسلّح كطرِيق وحيد لإقامة الدّولة الدِيمقراطية وتصفية الكِيان الصّهيوني ونظريّته على الأَرض العربية.
كانت عمليّة عَيلبون والحجَر الذي قذَفه أبو عمّار في نهر الأُردن كفيل بأن يُغير مَسارات الصّراع ووجه التّاريخ بثورةٍ عارمة تمتدْ من الخَارج إلى الدّاخل، وبتثويِر كُل قِطاعات المُجتمع في الأَرض المُحتلة وفي المُخيّمات في دول الطّوق وتعبِئة كاملة لكُل فِلسطيّني العالم والجمَاهير العربيّة. بريق أمل وقُوة ونَجاح النّظرية والفِكرة في معركة الكَرامة وأَطفال الآر بي جي في لبنان وعمليّات العُمق في الأَرض المُحتلة التي قام بِها القِطاع الغربي لقُوات العاصِفة كانَت فِكرة لم تجِد فُرصة لاستمراريّتها لعِدة مُتغيرات إقليميّة وسَيكُولوجية قيادة لم تستطع إستثمار الظّرف والزّمن في الموازِين الإقليمية والدّولية، بل أعتقد أنّ تلك القِيادات بمُيولها اليمينيّة قد تجاوبَت مع تِلك المتغيرات، فبدلاً من أن تكُون الثّورة صانِعة الحَدث والمَوقِف أصبحت أسيرةً ومتلقيّة للحَدث والمَوقف ودَخلت في دَهاليز المَشاريع الإقليمية مِن خلال أُطروحات مُتدرّجة أخذت بالهبوط شيئًا فشيئًا، فانفَصَلت بذلك الثّورة عن واقِع الثّورة، وبَدَأ الإنهيار عَلى كافّة الأصعِدة الثّقافية والمِيكانيزمات العسكريّة والتّنظيم ونَمَت في تلك الأَجواء مراكِز القُوى والإستِثمارات للجَماعات وسُوق المال في الثّورة وتجسّدت الدّكتاتوريات الكُبرى والصُّغرى ولنتذكّر ما قَال أبُو الزّعيم واصِفاً القيادة الفلسطينية بمُصطلحٍ مُخل بالأَدَب العام واتّهمهم بمُحاولة ترقِيع المَواقف على قاعِدة الوَلاءات مما أدّى إلى كارِثة الإِنسحاب من البِقاع في إِجتياح 1982م، ولاَ نُريد هنا أن نتطرّق إلى مَلف المَسلكيّات الأَخلاقية التي لا تَكفي مُجلداتٌ لذِكرها، كُلّ تلك الظواهر كَانت مُمنهجة وصولاً لمَقتل الثّورة الفِلسطينية المُعاصِرة.
الحَجَر الّذي رَمَاه أبُو عَمّار في نهر الأُردن غيّر مَجرى التّاريخ ولكِن إلى أين وإلى أيّ جِهة؟، لقد تمّ تغيِير مَسَار الحَجَر من ثورة تقتلِع الكِيان الصُّهيوني وإنهاء حالة الّلجوء وإِقامة الدّولة إِلى إعتراف وتنسِيق أَمني على بَقايا وطن، وبعد عَقدين من المُفاوضات يعترِف الرّئيس الفِلسطيني بأنّ السُّلطة تعمل لَدى الإِحتلال ولا يُمكن الصّبر أكثَر من ذلك ويعترف صائِب عُريقات بأنّ الحاكِم الفِعلي مردخاي وليبرمان!!، أعتقد أنّه مِن سُخف المَواقِف أن يتَحدّث الرّئيس الفِلسطيني ومسؤول ملف المفاوضات عُريقات عن هَذا طالَما كانُوا يتّخذون أقسَى المواقِف ضدّ من كانُوا يُحذّرونهم مِن هذا الطّريق الضّال، فهل يُفلتوا من الحساب والعقاب؟!.
انهَارت الثّورة بقُبول برنامِج الحَل المَرحلي والنّقاط العَشر والتّجييِش وقُضِي عَليها تماماً بالخُروج مِن بَيروت بوُعود فرنسيّة أمريكيّة بالإعتِراف بمُنظّمة التّحرير مُمثّل شَرعي ووحِيد وانطلاق الحلّ السّلمي والمُفاوضات، عِلماً بأنّ المُفاوضات مع الإسرائِيلييّن لم تتوقّف مُنذ المُنتصف الثّاني مِن السّبعينات، فهل كانَت تِلك المُفاوضات على قاعِدة الأَدبيات والمُنطلقات للثّورة أَم على قاعِدة إِغتيال أهدافِها ومبادِئها واغتيال من يعتنقُها؟. للأسَف الوُعُود الأمريكيّة التي دَفَعت القيادة الفلسطينيّة للإِعتراف بإِسرائيل مِن خِلال مُؤتمر الجَزائر عام 1988م، وبِما يُسمّى إعْلان الإِستقلال والإِعتراف بالقَرارَين 242 و338 والّذي مَهّد للدّخُول في إِتّفاق أُوسلو - غزّة أَريحا المرحليّة الأُولى وحُكماً ذاتياً منقُوصاً على 25% من الضفّة وغزّة وباقِي المَناطِق تحت السّيطرة الأَمنيّة الإِسرائيليّة وحَشر عَناصِر الثّورة وجلبِهم مِن الخَارج للدّاخل ضِمن مَساقات مُحدّدة برُتبة وراتِب وفرز أمنِي ومُتابَعات.
"الفكرة لا تموت"، ولم تمت، بل مات من خرَج عنها في السّجِلات الوطنيّة والتّاريخ، قد نُلاحظ تَداعِيات واقعيّة السّلوك الذي انتَهجته القِيادة الذي أدّى إلى الإِنقسام وأدّى إِلى حالَة التّيه، لا يُوجد ثورة مهزُومة أو شُعوب مهزُومة بل يُوجد قِيادات تقُود الثّورات والشّعُوب نحو الهزِيمة وزمناً ثميناً لإرسَاء قَواعد القُوة فِي لُعبة الصّراع مع الإِحتلال مُقابل أنانيّتهم ومصَالحهم التّي استَعجَلوا منها قَطف الثّمار بتفكِير الإقطاع السّياسي الذي حذّرَنا مِنه الفِيتناميون في أَواخر السّتينات، ولِكي نُقيّم بشكلٍ سليم يجب الوقوف على المُقدّمات وليس إِعطاء المُبرّرات والتّعلِيلات للنّتائج.
قِصّة المُجتمع الدّولي هُو من عَناوين الخُدعة التي أُصيبت بِها القِيادة الفِلسطينية برغبةٍ مِنها كما هو الحالُ عندَ مريض الإنفِصام، لا يُوجد شُعوب حرّرها المُجتمع الدّولي من الإِحتلال والظّلم بل يُوجد شُعوب فرضَت وُجُودها وحُقُوقها وتفَاعُلها مِن خلال مُقاومتِها، أبو مازِن وما قبلَه أَهدرَا وقتاً ثميناً، وبالتّأكيد أنّ أبُو مازن وضَع النّظام السّياسي والمنظُومة الوطنيّة في مأزق وجُرف، ولكن من يتحدّثون عن نهايتِه بأيٍّ من السّيناريُوهات التي تتعلّق بالتّوصيات الأمريكيّة والإسرائيليّة والإقليميّة لن يحصُدُوا أكثَر ممّا حَصَده أبُو مازِن، وإن كان هُناك حصَادٌ يُذكر فهو أوجاعٌ ومُستقبل مجهُول والسّبيل الوحِيد أن ينتفِض الشّعب ويُحيي الفِكرة وينتفِض ويُغير أوراقَ الّلعبة وأَطرافها وقُواها وعنَاصرها، ويوقِف العَبث والفَشل، والبِدء في مرحَلة نِضاليّة تختلِف عن سابِقتها وتنفُض هَذا المَاضي مهمَا يُكلّف مِن تضحِيات.
مُستقبلٌ غامِض إن لم يكُن كارثي سيُواجه الشّعب الفِلسطيني سَواءً في الضّفة أو غزّة باختِلاف الظُروف الكارِثية، ومن كَانوا يتحدّثون عن المَشروع الوَطني نقُول لهم لقَد ارتَكبتُم خطأً وخطِيئة.