الأرشيف الإسرائيلي: ملفات "سريّة جدّاً" إلى الأبد !

حجم الخط

بقلم: عوفر أديرت


جرى لقاء استثنائي، الشهر الماضي، في المحكمة العليا. في الجانب الاول كان ثلاثة قضاة من المحكمة العليا، وفي الجانب الثاني كان اشخاص يحظر ذكر اسمائهم. على جدول الاعمال: إلقاء نظرة على ملفات الارشيف التاريخية السرية التي توجد لدى «الشاباك» في محاولة لفهم لماذا يعارض «الشاباك» فتحها امام الجمهور. المادة التي توجد في الوثائق لا تتعلق بالبرنامج النووي في إسرائيل أو فشل الانذار في حرب «يوم الغفران»، الموضوعين اللذين ما زال طريق الوصول اليهما مسدودا أمام الجمهور الواسع تقريبا بصورة اوتوماتيكية. القضية التي بسببها كلف القضاة ورجال «الشاباك» أنفسهم عناء الحضور إلى قاعة المداولات في القدس هي قتل الدكتور إسرائيل كاستنر في العام 1957.
في نهاية المشاورات سُمعت أقوالٌ مشجعة من رئيسة المحكمة العليا، استر حيوت. «نحن نسير على حبل، من جهة يجب علينا أن نكشف اكثر ما يمكن، ومن جهة اخرى يجب علينا الحفاظ على المصالح»، قالت. خلف كلمة «مصالح» تختفي تعبيرات مثل «أمن الدولة»، التي تظهر مرة تلو الأخرى في النقاشات حول فتح مواد الأرشيف المغلقة امام الجمهور. ما العلاقة بين قتل كاستنر وأمن الدولة؟ الاجابة عن هذا السؤال يحاول كشفها الدكتور نداف كابلان، الباحث الذي اجتمعت المحكمة العليا و»الشاباك» في نقاش مشترك، في اعقاب التماسه.
وعدت حيوت بأن القضاة سيحاولون «التوصل إلى كشف وثائق اخرى بقدر الامكان»، وهو وعد مشجع. وحسب قولها، هدف الاتصالات مع «الشاباك» هو «مناقشة الأمور مع الجهات الأمنية في محاولة لفهم الأسباب الدقيقة لعدم كشف الوثائق التي توجد في المواد السرية».
الدكتور يعقوب لزوبك، المسؤول السابق عن ارشيف الدولة، والذي تميزت ولايته بمقاربة ليبرالية حول كل ما يتعلق بسياسة كشف الوثائق، يتابع باهتمام هذا الملف. «سيكون هذا الصراع طويلا ومتعبا» قال، وأضاف: «لن نفوز بالضربة القاضية، بل سنفوز بإنجازات قليلة ستتراكم لتصبح شيئاً اكبر».
وحسب قوله: «موقف الامنيين غير مقبول كليا. يجب عليهم أن يبرروا مرة تلو الاخرى، وفي نهاية المطاف سيضطرون الى فتح شيء ما».
عيون كثيرة تتطلع الى قرار المحكمة العليا في قضية قتل كاستنر. في السنوات الاخيرة تجري في هيئات قضائية مختلفة عدة مداولات مهمة ومبدئية تتناول قضايا تاريخية. القاسم المشترك بينها هو «المطالبة باعطاء الامر للارشيف أو الوزارات الحكومية أو الاستخبارات بالسماح للجمهور بالاطلاع على وثائق عمرها عشرات السنين. عدد منها يغطيه الغبار على الرفوف، وبعضها تم نشره جزئيا فقط، وهناك اجزاء كبيرة منها ما زالت ممنوعة.
احدى القضايا توجد في صلب التماس آخر، انتهى، الشهر الماضي، بفشل معروف مسبقا تقريبا. كان الموضوع طلب نشطاء لحقوق الانسان، وعلى رأسهم المحامي ايتي ماك، كشف وثائق وزارة الدفاع التي توثق علاقات إسرائيل الامنية مع النظام الديكتاتوري القاتل في هاييتي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بما في ذلك بيع السلاح.
في الالتماس قيل إنه يوجد اهتمام للجمهور بالكشف عن المعلومات «من اجل أن يمنع في الحاضر وفي المستقبل التصدير الأمني الإسرائيلي لجهات متورطة بجرائم ضد الانسانية». ايضا من أجل تعزيز المطالبة بأن يتم اجراء تحقيق في إسرائيل مع جهات كانت مسؤولة عن التصدير الامني الإسرائيلي لهاييتي.
المحكمة المركزية في تل ابيب، التي اطلعت على الوثائق السرية لوزارة الدفاع، رفضت الالتماس. ولكن الى جانب المبررات المعروفة بشأن أمن الدولة اضيفت اعتبارات اخرى، هناك من يقولون إنها تنبع من مجال العلاقات العامة. «هذه المرة فتحت كوة لادعاءات الدولة واعتبارات القاضي»، قال ماك. ومن بين امور اخرى اظهر القاضي حاجي بيرنر تخوفه من أن كشف الوثائق سيخدم حركة «بي.دي.اس.»، وقد حذر من «محاولات متوقعة لجهات معادية لدولة إسرائيل وتعمل ضدها في الساحة الدولية لاستغلال هذه الوثائق من اجل تشويه سمعة دولة إسرائيل في العالم».
كشف الوثائق، حسب القاضي، يمكن أن يتسبب ايضا «بالمس بصورة إسرائيل الايجابية الآن في اوساط الجمهور في هاييتي».
في وثائق رسمية في وزارة الخارجية الإسرائيلية تم إرفاقها بالالتماس، تبرز «نظرة عنصرية، متعالية ومستخفة، من قبل ممثلي إسرائيل تجاه سكان هاييتي»، شرح ماك. الحاجة إلى مواجهة المواقف العنصرية لممثلي إسرائيل في الخارج، التي تم التعبير عنها في السابق ايضا بتصرفاتهم في دول كثيرة في القارة الافريقية وفي البرازيل وتجاه السكان الأصليين في أميركا الجنوبية وأميركا الوسطى، كان أحد تبريرات الملتمسين لأهمية كشف وثائق وزارة الدفاع.
ولكن المحكمة قالت في قرار الحكم إن هذا بالضبط هو السبب لعدم كشف الوثائق. لأن الامر يتعلق بـ «مراجعات تشمل استخدام مصطلحات مهينة كانت مقبولة قبل خمسين سنة، يتم النظر اليها سلبا بشكل خاص، وقد تلحق الضرر بصورة الدولة وبعلاقاتها الخارجية».

الروايات المختلفة
«الرقابة العسكرية حساسة لثلاثة مجالات»، قال البروفيسور اوري بار يوسف، عضو جمعية المركز لحرب «يوم الغفران»، والتي تعمل على كشف معلومات الارشيف من تشرين الاول 1973. قائمة المركز تشمل «كشف جرائم حرب يمكن أن تقود الى ردود مضادة أو تبرير المس بإسرائيليين وبالجنود، وكشف مصادر استخبارية وموضوع النووي الإسرائيلي».
تحتل حرب «يوم الغفران» رفوفاً كثيرة في ارشيف الدولة وارشيف الجيش. جمعية المركز لحرب «يوم الغفران» قدمت التماساً قبل سنة للمحكمة العليا من اجل أن تأمر المحكمة ارشيف الدولة بنشر محاضر جلسات الحكومة والكابنت، والمشاورات السياسية – الامنية ومذكرات رئيسة الحكومة، غولدا مائير، من فترة الحرب. «لا يوجد خلاف على أن نشر المواد بشأن حرب يوم الغفران، بما في ذلك عملية اتخاذ القرارات واستيضاح الوضع الحقيقي بشأن الحرب، توجد له اهمية تاريخية وبحثية كبيرة» كتب في الالتماس الذي ما زال ينتظر النقاش الاولي فيه.
«الموساد» ايضا يحتفظ لنفسه بالملفات التاريخية التي توثق نشاطاته، وهو غير متحمس لكشفها على الجمهور الواسع. على هذا الرف يوجد ايضا ملف ايلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي في سورية، والذي تم تشغيله من قبل «الموساد». اسم كوهين عاد مؤخرا الى العناوين في اعقاب تقارير عن جهود العثور على رفاته واحضاره الى إسرائيل.
الآن، بعد 56 سنة على شنق كوهين في ميدان في دمشق، ربما يأتي القليل من العزاء لعائلته. مع ذلك، هناك لغز كبير سيواصل التحليق حول ظروف كشفه من قبل السلطات السورية حتى بعد أن يتم احضاره للدفن. وطالما لم يتم فتح ملف ايلي كوهين في ارشيف «الموساد» سنبقى مع الروايات المختلفة حول مسألة كيف كشف السوريون آثاره.
تتراوح الاجوبة بين اهمال «الموساد»، الذي تجاهل علامات الانذار ولم يأمره بالبقاء في إسرائيل في زيارته الاخيرة، مروراً بتصرف كوهين نفسه غير الحذر وانتهاء بـ «عميل» داخل «الموساد» قام بتسليمه. في الخلفية توجد ايضا تقارير ودلائل عن اتصالات قام باجرائها مع عملاء الـ «سي.آي.ايه» ولقاءات مع مجرمي حرب نازيين تعاونوا مع المخابرات السورية.
حدث تاريخي آخر، جزء منه ما زال حتى الآن سرياً، هو المذبحة التي نفذها اعضاء» ايتسل» في قرية دير ياسين في العام 1948. في العام 2010 كانت «هآرتس» شريكة في الالتماس الذي طالب باعطاء الامر لأرشيف الجيش لنشر صور تتعلق بالمذبحة. ولكن الدولة قالت إن نشر الصور، التي حسب الشهادات وثقت عددا من الضحايا العرب، يمكن أن يضر بعلاقات الدولة الخارجية. القضاة صدقوا الدولة، وبعد أن اطلعوا على الصور رفضوا الالتماس.
«حقيقة أن الدولة تحظر ذلك، فقط تضخم الموضوع لأبعاد اسطورية»، قالت السينمائية نتاع شوشاني، التي كانت مشاركة في الالتماس حول هذا الموضوع في اطار فيلمها الوثائقي «ولد في دير ياسين»، الذي قامت فيه باجراء مقابلة مع أواخر المحاربين الذين شاركوا في المذبحة. «أنا على ثقة بأنه لا يوجد في هذه المادة أي شيء سيسقط أي شخص عن الكرسي. اذاً يجب عليهم فتحها» قالت، واضافت: «ما الذي سنشاهده بعد؟ صور باهتة لجثث بالاسود والابيض؟ الاخفاء هو الاستراتيجية الاكثر غباء التي يمكن اتباعها. يجب أن لا نخاف من الحقيقة».

عودة إلى وادي الصليب
ليس فقط ملفات امنية مخفية عن عيون الجمهور. يخفي «الشاباك» ايضا وثائق كثيرة عن نشاطاته في الساحة المدنية. من ضمن ذلك نشاطات استخبارية واحباط لعمليات في اوساط المهاجرين الجدد في المراكز المؤقتة، في مدن التطوير وفي الاحياء، منذ الخمسينيات فما بعد. في المادة يوجد ايضا توثيق لنشاطات «الشاباك» حول قمع الاضطرابات لمن جاؤوا من الشرق في احياء وادي الصليب في حيفا في 1959، التي اندلعت على خلفية الاضطهاد والتمييز الطائفي. ضمن امور اخرى، تم اصدار تقارير عن متابعات وتنصت و»نشاطات وقائية» لـ «الشاباك» ضد مهاجرين شرقيين، كان عنوانها «منع نشاطات سرية سياسية». استمرت النشاطات، كما يبدو، أيضا في السبعينيات ووجهت ضد «الفهود السود».
قبل سنتين تقريبا قدم المؤرخ الدكتور شاي حزكاني التماساً للمحكمة العليا، ومعه رابطة حقوق المواطن، من اجل فتح المادة. «في ارجاء العالم تطرح مطالبات للكشف عن وثائق ترتبط بقمع مجموعات عرقية من قبل الاجهزة الاستخبارية»، قال حزكاني. في الولايات المتحدة، التي يعيش فيها ويحقق، كشف محاولات جهاز المخابرات لقمع النضال من اجل مساواة السود، بما في ذلك المحاولات لاسقاط مارتن لوثر كينغ في الشرك، كشفت كاملة. ايضا في إسرائيل يعترف «الشاباك» بأنه كان له دور اساسي في قمع احتجاج الشرقيين، حتى أنه اشار الى أن الأمر تم من قبل وحدة خاصة أُنشئت من أجل ذلك.

73 سنة سرية
حالة اختبار خاصة تدل اكثر من أي حالة اخرى على عدم جدوى اخفاء ملفات الارشيف، هي تقرير ريفتن. في هذا الشهر يصادف مرور 73 سنة على كتابة الوثيقة من قبل يعقوب ريفتين، العضو في «لجنة الامن» قبل اقامة الدولة. في الوثيقة يتم تفصيل حالات كثيرة من الاعدام دون محاكمة، قتل معتقلين، وتعذيب اثناء التحقيق من قبل اعضاء «الهاغاناة».
تقرير ريفتن تم حفظه منذ ذلك الحين في ارشيف الجيش الإسرائيلي. وفشلت محاولات نشره طوال السنين. ادعت الدولة أن الامر «يمكن أن يؤدي الى تأجيج النفوس وربما الى اعمال انتقامية»، وايضا المس بعلاقات إسرائيل الخارجية لأن «عدداً من هذه الاعمال، بالاساس قتل أسرى وأعمال أخرى، يوجد فيها نوع من المس بالقانون الدولي».
في العام 2017 حدثت اختراقة عندما عرض المسؤول عن ارشيف الدولة في حينه، لزوبك، موقفا مفاجئا في النقاش في اللجنة الوزارية بشأن السماح بالاطلاع على مواد ارشيف سرية. خلافا لسلفه في المنصب، أيد نشر الملف وقال: «دولة إسرائيل قوية، والمجتمع الإسرائيلي قوي، ولا يوجد أي سبب لعدم تمكين مواطني الدولة من اجراء تحقيق حر في توثيق حروبها البعيدة».
لم توافق اللجنة على موقفه، لكن الباحثين في معهد «عكفوت» عثروا في تلك السنة على نسخة من تقرير ريفتن في ارشيف «يد تبنكين». وقد تم نشره في ملحق «هآرتس» من قبل كاتب هذه السطور.
في الصيف الماضي، في اعقاب طلب من المحامي افنر بنتسوك من رابطة حقوق المواطن، اعلنت الرقابة فجأة بأنه «لا يوجد أي عائق رقابي امام نشر التقرير».
وفي هذا الشهر عرض التقرير في موقع «عكفوت». ومع ذلك، عشرات الملاحق في التقرير، التي تتضمن كما يبدو الشهادات التي حصل عليها ريفتن في تحقيقه، وكذلك توثيق مرافق آخر، ما زال الجمهور حتى الآن ممنوعاً من الاطلاع عليها.
«التوثيق التاريخي لنشاطات الدولة يعود للمواطنين – هذه هي نقطة الانطلاق»، قال ليئور يفنه، مدير عام «عكفوت». وحسب قوله، لا يصمد أمن الدولة أو علاقاتها العامة في الاختبار، بل فقط الحاجة الى «حماية الصورة الذاتية للمجتمع الإسرائيلي والحفاظ على روايته الرسمية».

عن «هآرتس»