عن الانتخابات في إسرائيل : عدد المقاعد العربية أقل لكن وزنها أكثر

حجم الخط

بقلم عماد شقور 

 

بغض النظر عما سينتهي إليه تكليف نتنياهو بتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بعد الانتخابات الرابعة هناك خلال أقل من سنتين، يوم 23 من الشهر الماضي، فإن الرابح الأكبر في مسلسل الانتخابات هذا، هو الصوت العربي الفلسطيني.

أقول هذا بقناعة تامة، رغم شعور كثيرين من أبناء الأقلية العربية الفلسطينية، الذين يحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية، بالإحباط، الذي لا أرى مبررا له على الإطلاق، ورغم أن بين هؤلاء من هم في مصاف النخبة وفي مواقع متقدمة في قيادات الأحزاب والقوى السياسية هناك، ومن الذين أمضوا في العمل العام عقودا عديدة.

لتوضيح وتفسير أسباب قناعتي بأن الرابح في هذه الانتخابات هم العرب الفلسطينيون أصحاب حق الاقتراع في إسرائيل، لا بد من شرح لتوضيح صورة الوضع هناك، ومعاناتهم المتواصلة منذ عام النكبة وحتى الآن.

لم تكن أي من دروب النضال التي خاضتها الجماهير الفلسطينية في إسرائيل مفروشة بالورود. بل لم تكن تلك الدروب اصلاً معبّدة أو سهلة. كانت وعِرَة ومليئة بالعقبات والحواجز والحفر والمطبات والمزالق. وسواء في ذلك إن كان الحديث عن درب التمسك والمحافظة على الأرض والمسكن والبقاء في الوطن؛ او الحفاظ على هويتهم الوطنية الفلسطينية؛ او الحفاظ على اللغة العربية؛ او مقاومة «الحكم العسكري» الذي قيّد حركتهم وألزمهم، على مدى عقدين تقريبا، وحتى سنة 1965 تحديدا، البقاء في معازل لا يسمح لهم بالخروج منها الا بتصاريح خطية من الحاكم العسكري؛ او النضال ضد تواصل واستمرار مسلسل مصادرة أراضيهم، الذي بلغ ذروته في «يوم الأرض» في الثلاثين من آذار/مارس 1976؛ او في الطريق المتعرج الطويل لاسماع صوتهم، والمطالبة بحقوقهم في الكنيست، (البرلمان الإسرائيلي).

قطعت الجماهير الفلسطينية في الداخل، في طريقها الى الكنيست الإسرائيلي، ومنذ الانتخابات الاولى سنة 1949، مراحل متعددة، تميزت في بدايتها بتواضع بالغ في التأثير، حيث كانت تصب غالبية أصواتها لـ«أحزاب ذيلية» ملحقة بالأحزاب الصهيونية، وأهمها حزب «مباي» يترأس هذه الأحزاب مخاتير و«وجهاء» تنصبهم السلطة الإسرائيلية، ويصب بعضها مباشرة الى أحزاب يهودية دينية صهيونية، مثل حزب «مفدال» ولا يبقى الا قلة من اصوات مناضلين وطنيين يعطون صوتهم للحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي لم يعمر طويلا قبل أن يتحول الى حزبين: حزب «ماكي» الذي اضمحل واختفى، و«حداش» (الجبهة الديمقراطية للسلام) الذي يعتبر الطور الجديد للحزب الشيوعي الذي تشكل في فلسطين من يهود وعرب سنة 1922، وكان من أبرز قادته في الحقبة الإسرائيلية توفيق طوبي وإميل حبيبي وتوفيق زيّاد، وكان لجريدة الحزب «الاتحاد» ولمجلّته الأدبية «الجديد» الدور الأبرز للحفاظ على اللغة العربية، واطلاق عمالقة الأدب والشعر الفلسطيني المقاوم، ومن أبرزهم محمود درويش وسميح القاسم وآخرون. ونذكر في هذا السياق حزب يساري صهيوني معتدل هو حزب «مبام» الذي شكل رافدا أساسيا لحزب ميرتس اليساري الحالي، ودور جريدته باللغة العربية «المرصاد» التي انطلق منها راشد حسين، اول شعراء المقاومة.

مع تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع العام 1965، وإثر نكسة حزيران/يونيو سنة 1967، وإعادة التواصل، (الى حد ما) بين اثنين من مكونات الشعب الفلسطيني: الفلسطينيون العرب في إسرائيل، والفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، واعتراف بقية أبناء الشعب الفلسطيني بصوابية قرار «فلسطينيي الداخل» التمسك بارضهم ورفض اللجوء والنزوح، والاعتراف بدورهم الكبير في مجمل النضال الفلسطيني لاستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، حدث التغير الجذري في النظرة الفلسطينية الى دور «فلسطينيي الداخل» في الكنيست، وبدأ هؤلاء في التقدم بخطوات صغيرة وبطيئة لتثبيت وجودهم وحضورهم في الكنيست، ومحاولة لعب دور للتأثير على السياسة الإسرائيلية، بدءاً من التركيز على حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، والنضال ضد التمييز العنصري الذي يعانون منه، ووصولا الى المطالب السياسية الوطنية العامة.

ساهم النجاح المميز للنضال في يوم الأرض في ربيع العام 1976، في إعادة الثقة للجماهير العربية في إسرائيل بنفسها وبقدرتها على تحقيق بعض مطالبها، وانتجت الثقة بالنفس ثمرتها الأولى ممثلة بتشكيل «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» المكونة من حزب «حداش» وشخصيات وطنية وازنة التفت حولها وساندتها، وانخرطت في الجبهة، (وليس في الحزب) غالبية كبيرة من تلك الجماهير؛ ولحق بذلك تشكيل «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل» التي اعتبرت في مرحلة تاسيسها برئاسة عبدالله نمر حسين، بمثابة «حكومة الجماهير العربية في إسرائيل».

بفضل هذا التطور النوعي على ساحة الجماهير الفلسطينية في إسرائيل أمكن بدء تعبيد الطريق الى التأثير في السياسة الإسرائيلية، وعدم الاكتفاء باعتبارها مجرد منبر تعلن من خلاله المطالب، الى تركيز الاهتمام على اعتبارها مصدرا للقرار ورسم السياسة والزام الحكومة (السلطة التنفيذية) بقراراتها، واسقاطها بحجب الثقة عنها اذا لم تلتزم. وبعد تصاعد وتعاظم وزن منظمة التحرير الفلسطينية في الساحات الفلسطينية والعربية والدولية؛ وبعد الصمود الأسطوري في مواجهة الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصار بيروت؛ واثناء وبعد الانتفاضة الفلسطينية المباركة الاولى، جاء أوّل الغيث في الكنيست، حين شكل الاعضاء العرب فيها، بقيادة توفيق زيّاد وعبد الوهاب دراوشة، شبكة أمان لحكومة اسحق رابين، مكّنتها من إقرار اتفاقية اوسلو.

جاءت اثر قتل احد غلاة اليمين العنصري الإسرائيلي، (او قل مندوب هؤلاء) لرئيس حكومتهم، اسحق رابين؛ ثم امتناع ايهود براك عن الاقرار بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، ونجاحه في شيطنة القيادة الشرعية الفلسطينية، وعلى رأسها الزعيم الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات، وسقوطه لاحقا في تنافسه مع اريئيل شارون، واندلاع الانتفاضة الثانية، التي نجح شارون في عسكرتها، لتعيد كل ما أنجزته اتفاقية اوسلو ليس الى نقطة الصفر، بل الى عقود عديدة الى الوراء، على كل صعيد، بما في ذلك دور الأقلية الوطنية الفلسطينية مع الشارع اليهودي في إسرائيل، ولتلغي كل امكانية لدور تلك الأقلية في الكنيست، وفي التأثير والمساهمة، ولو الطفيفة، في السياسة الإسرائيلية.

لكن المفاجآت لم تتأخر!. ومن المفارقات العجيبة الغريبة أن الفرج جاء هذه المرّة من حيث لم تحتسب الجماهير الفلسطينية في إسرائيل: جاء من زعيم حزب «يسرائيل بيتينو ـ إسرائيل بيتنا» البالغ العنصرية، أفيغدور ليبرمان، صاحب شعارات إلحاق سكان مدن وقرى المثلث، (بدون أراضيهم التي صادرتها إسرائيل طبعا) الى مناطق السلطة الفلسطينية، وصاحب التهديد بقصف سد أسوان في مصر، حيث قاد حملة في الكنيست، الى أن اقرت هذه قانون رفع نسبة الحسم الى 3.25، وهو القانون الذي أجبر الأحزاب الفلسطينية في «الداخل» الى توحيد صفوفها في قائمة انتخابية واحدة، وخلقت جوّاً من التآلف والتعاون بينها، واحرزت تلك القائمة المشتركة في انتخابات آذار/مارس 2015، 13 مقعدا في الكنيست.

بعد أربع سنوات وشهر عجاف، انقسمت القائمة المشتركة الى قائمتين متنافستين، فأحرزت الجبهة ومعها ستة مقاعد، وأحرز الشق الآخر اربعة مقاعد فقط.

عندما تيقّن وتأكد المنشقون عن «المشتركة» أنهم خسروا، عادوا الى رشدهم، وتشكلت «المشتركة» من جديد، وتمثلوا في الكنيست بـ13 مقعداً، الأمر الذي دفعهم الى الاستمرار في الشراكة، فقابلت الجماهير العربية في إسرائيل ذلك بحماس وبتجنيد غير مسبوق، وشغلوا 15 مقعداً.. وهو الأمر الذي ادى الى تشكيل حكومة عرجاء مشلولة، عندما خان زعيم «كحول لفان ـ أزرق أبيض» منتخبيه والتحق بزعيم حزب الليكود اليميني، بنيامين نتنياهو…

وصولا الى الانتخابات الأخيرة قبل اسبوعين: نجح نتنياهو بفصل الحركة الإسلامية الجنوبية المعتدلة، واسمها في الانتخابات الإسرائيلية الاخيرة «القائمة العربية الموحّدة» عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وبقية مكوناتها في القائمة العربية المشتركة، بقيادة رئيسها أيمن عودة، فاحرزت هذه ستة مقاعد، في حين أن «الموحدة» احرزت اربعة مقاعد.

نزل عدد النواب في المشتركة الموحدة من 15 مقعدا الى 10 مقاعد… لكن الغيث هذه المرة جاء من إسرائيلي عنصري آخر، هو بنيامين نتنياهو ذاته، الذي قدّم مصالحه الشخصية الذاتية، على التزامه العنصري، (بالتنكر لكل ما هو فلسطيني) وكانت النتيجة حتى الآن أن عدد المقاعد الفلسطينية العربية في الكنيست اصبحت 10 مقاعد فقط، لكن وزنها النوعي زاد حتى وزنها يوم كانت تحتل 15 مقعداً.

إلى اين نتقدم من هذه النقطة؟.

أقول للصديق أيمن عودة: الدنيا بخير.. وطالما أن في هذه القائمة الموحدة، التي انشقت عن القائمة المشتركة، شخصية وطنية ملتزمة: هو الصديق مازن غنايم، الذي لولاه لما تخطت القائمة الموحدة نسبة الحسم، فإن في المقبل من الأيام ما يدعو للتفاؤل.