وهم المراهنة على “التصويت الانتقامي”

حجم الخط

بقلم أنور رجب 

 

ظهر مصطلح “التصويت الانتقامي” للاستخدام والتداول مؤخراً مع تزايد حمى تشكيل القوائم الانتخابية، وربما يقتصر هذا الاستخدام على عدد من المرشحين في بعض القوائم المستحدثة، ولهم في استخدامه والإمعان في تداوله أهداف بعيدة كل البعد عن مضمون الفكرة التي يسعون لتعميمها عن المقصود بهذا المصطلح، فظاهرياً يتم تسويقه بأنه تعبير عن حالة الغضب وعدم الرضا لدى المواطن عن الأوضاع السائدة في فلسطين، وعن الأداء الحكومي بكل تفاصيله سواء اتجاه الحكومة الفلسطينية في رام الله أو حكومة الأمر الواقع في قطاع غزة، سيدفع المواطن الفلسطيني لمعاقبة القائمين على الأمر، ويقصدون بالطبع “كتلتي فتح وحماس” بوصفهما من يديرون الشأن العام في شقي الوطن، وهذا فيه قول آخر لاحقاً. ولكن حقيقة الأمر أن هذه القراءة الواهنة والخبيثة في آن معاً تخدم أجندات أصحاب ومروجي هذا المصطلح ومن يتقاطع معهم، ظناً منهم أن الحفاظ عليه وإبقاءه قيد التداول والاستخدام قد يشكل عوناً لهم في كسب مزيد من الأصوات وربما في عدد المقاعد.

وقبل الخوض في أهداف ونوايا أصحاب هذا المصطلح ومستخدميه، من الأهمية بمكان أن يتم تفكيكه والتأصيل لخطورته وطنياً ومعرفياً، إذ يحمل في ثناياه قدرا عاليا من الاستخفاف بالمواطن الفلسطيني والحط من شأنه بتصويره يفتقر للفهم الوطني والنضج المعرفي في تحديد خياراته السياسية وتحديد مستقبله ومستقبل أبنائه، وهو ينطوي على اتهام له بالعبثية وفقدان البصيرة عندما يصف خياره وحقه بالتصويت بالانتقامي، وقد تناسى أو لم يتنبه مستخدمو هذا المصطلح إلى أن الشعب الفلسطيني هو الأكثر تعلماً ونضجاً من بين شعوب العالم، وقد سجل مآثره الوطنية على مدار أعوام الصراع وما زال، ربما لأنهم بعيدون جداً عن نبض الشارع، ولهم اهتماماتهم المختلفة عن اهتمامات المواطن واحتياجاته، بعد أن أصابتهم غشاوة بفعل التمويل القادم من عواصم لا تحمل للشعب الفلسطيني إلا كل الشر.

الأمر الآخر والمهم حول هذا المصطلح أنه يبدو في ظاهره يستهدف حركتي فتح وحماس، ولكن في باطنه هو يستهدف فقط حركة فتح، فإذا ما تتبعنا القوائم والأسماء التي تردد هذا المصطلح سنجد أن رهاناتهم قائمة على استقطاب أصوات الناخبين الذين يدورن في فلك فتح، ظناً منهم أن وجود بعض الأسماء ذات خلفية فتحاوية في قوائمهم ستكون عامل جذب لتلك الأصوات، ويتساوق هذا ويتقاطع مع تصوير التفاعلات التنظيمية الداخلية التي تجرى في أوساط حركة فتح بوصفها شكل من أشكال الوهن والتشرذم، وهو ما يخدم فكرة مصطلح “التصويت الانتقامي”، ولكن الأهم والأخطر أن هذا المصطلح وما يرتبط به من تأويلات وتحليلات يخدم هدفاً مركزياً ورئيسياً يستدعي منا الوقوف بحزم أمام صانعيه ومروجيه، كونه ينسجم ويتقاطع ويخدم المشاريع التآمرية لأطراف عدة تسعى من خلالها لإضعاف حركة فتح والعمل على تشرذمها وتغييبها عن قيادة المشروع الوطني بوصفها عقبة كؤود أما مشاريعهم التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية تحت رعاية “اتفاقيات إبراهيم”، وقد وجدت هذه الأطراف ضالتها في بعض المتسلقين والانتهازيين وأصحاب الأجندات الشخصية ومقاولي المؤسسات المخابراتية في المنطقة من بين ظهرانينا، وقد كان هذا المصطلح واحداً من تجليات الاستهداف المنظم والموجه عن قصد للتأثير على فرص حركة فتح وفقط حركة فتح في الانتخابات القادمة.

إن المراهنة على قدرة شعبنا وما يمتلكه من وعي ونضج وطني وعين فاحصة هو ما يضبط ويوجه بوصلة حركة فتح في إدارتها للشأن العام وعلاقتها مع الشارع الفلسطيني، وهو ما يجعلها مطمئنة لتوجهاته التصويتية، في الوقت الذي تسعى فيه الحركة بدورها لطمأنة المواطن وتجديد وتعزيز ثقته فيها، حيث تسير فتح باتجاه الانتخابات بقائمة واحدة موحدة، لم يضيرها من غادر السرب في الوقت الحرج، ولم تستجيب لمحاولات الابتزاز تحت وقع العملية الانتخابية، بل تحول ذلك إلى هجمة مرتدة رفعت من وتيرة التحدى في صفوف كوادر الحركة ومناصريها بعد أن لمسوا واقعاً حجم التآمر على حركتهم وقضيتهم. كما تدرك حركة فتح أنها تمتلك كل المقومات والقدرات التي تؤهلها للاستمرار في مواصلة قيادة المشروع الوطني وتحقيق حلم الدولة، بالرغم من كل المعيقات والعراقيل التي يصنعها الاحتلال، وبالرغم من كل المؤامرات التي تستهدفها.

نعم لقد شاب التجربة العديد من الأخطاء فهذه سنة الحياة “من يعمل يخطئ”، ولكن قدر فتح أن تتصدى وتتبوأ الصدارة في تحمل المسؤولية بكل ثقلها وتبعاتها في حين يتمتع الآخرون بمنجزاتها ويستميتون في الهجوم عند إخفاقاتها، فتصيب أكثر مما تخطئ، وتصمد أكثر مما تتعثر، وتناور وتحاور وتبدي مرونة حين يتطلب الأمر ذلك، وتتشدد حتى التطرف عند المساس بالخطوط الحمراء، ولا تختفي خلف شعارات زائفة وفارغة ولا تبيع الوهم لشعبها، وهي الأكثر وضوحاً وشفافية.

وبالعودة إلى المراهنة على “الصوت الانتقامي”، فإن الواقع يشير إلى أنه وخلال الفترة المتبقية لإجراء الانتخابات ستجرى في النهر مياه كثيرة، ومزاج الناخب يتغير ويتبدل، لا سيما وأنه أُصيب بخيبة أمل كبيرة من تعدد القوائم ومنها قوائم لفصائل وقوى وازنة لها تاريخها لم تسجل إنجازاً يمكن لها أن تقدمه لجمهور الناخبين خلال ال14 عاماً الماضية بكل ما حملته هذه السنوات العجاف من كوارث ومصائب سوى الشعارات والمواقف الضبابية، حتى أنها فشلت في أن توحد نفسها بقائمة واحدة تجمع من خلالها اشلائها وشتاتها. وكذلك الحال بالنسبة لقوائم المستقلين التي تضم بعضها شخصيات لا يعرفها الشارع إلا كونها واجهات لمراكز ومؤسسات تعتمد في مواقفها وأطروحاتها ونشاطاتها على التمويل الأجنبي المشروط، ولا تنتج إلا ما يُرضي الممول، ناهيك عن رائحة المال السياسي القذر التي تفوح من بعض القوائم ذات الأجندات اللا وطنية، وبعض القوائم خرجت من عباءة الحراكات الشبابية والمطلبية التي شكَلت في لحظة ما بارقة أمل لدى شرائح متعددة خاصة شريحة المستقلين والشباب من غير المؤطرين حزبياً، ولكن للأسف عندما جاء استحقاق الانتخابات تقدمت المصالح الشخصية والصراع على الأماكن المضمونة والمساومات لاستثمار تلك الحراكات والمتاجرة بها، حتى أصابها حالة من التشرذم والتفتت على شكل قوائم متعددة تفتقر في جلها إلى مقومات جذب الناخب وتأييده ومباركته، وبالتالي فكلما اقترب موعد الانتخابات كلما اتضحت الصورة أكثر وباتت الحقيقة أكثر سطوعاً، وأصبحت قدرة الناخب الفلسطيني أكبر على التمييز بين الغث والسمين.

خلاصة القول: إن فتح تمتلك الرؤية والتجربة والخبرة، وتمتلك المقومات والقدرات التي تؤهلها ليس لصياغة برنامج ورؤية والتبشير بمستقبل مشرق وحسب وإنما لتنفيذها وجعلها واقعاً معاشاً، وليبقى الآخرون في دائرة اللغو والتصيد والأحلام والأماني التي لن تترجم على أرض الواقع، لأنها ببساطة لغة ليست فلسطينية ووقعها ثقيل على مسامع شعبنا وقواه الوطنية الحية. وإن غداً لناظره قريب.