15/11 ، يوم عرس الاستقلال لكامل فلسطين وعرسا خاص لبلدة القبيبة قضاء الرملة ، في كل بيت فلسطيني تكمن حكاية ، وتفاصيل بطل عاش واستشهد ليترجم أعلى درجات المصداقية في انتماءه للوطن .
ولد رجلاً يوم "1/2/1988" ، وضع طفولته جانباً أو تم تأجيلها لحين تحرير وطنه ، منذ صغره عرف بوطنيته ، على الرغم من نعومة انامه وجماله الذي كان يوصف بـ "شوتز" وزير خارجية امريكا سابقاً ، ولكن على عكس ذلك كانت عقليته ، التي يملئها الضجيج والانتقام ممن سلبوا أرضه وقتلوا أهله وشردوا من تبقي .
يا أمي هل جهز الطعام ؟! ، يا بني أهدأ مازال يحتاج لقليلا من الوقت ، أريد أن أخرج ، ارجوكِ أعديه بسرعة ... حوار لا يتجاوز الدقيقة يبقي في قلب وعقل والدة الشهيد "محمد سامي زكي القيشاوي" حتى لقاء حبيبها البطل في جنات الخلد .
دموع والدة الشهيد تتحدث
عن ذلك البطل تقول "أم باسل" ، " لا أعلم ان كان فارقني أم أنه مازال أمام عيناي ، أنا ما زلت أراه ، ما زلت أشعر بروحه المرحة في كل أركان البيت ، هو مازال هنا ، مازال يلامسني .. يحدثني .. يداعبني ، يضحكني ، محمد لم يمت ، هو حي في داخلي " .
وتكمل والدموع تحرق خديها ، " محمد لم يكن من عشاق الدراسة ، فعشق وطنه فاق كل شيء ، التحق برفاقه بكتائب شهداء الأقصى باكراً ، أتذكر حين سألته يوماً عن امتحان "العربي" الذي قدمه ، قال ، "قدمت الورقة الأولي .. ينجحوني فيها وخلص " ، لم يعلم محمد أن درجته عند الله كانت أرفع وأسمى من درجات الدنيا وشهاداتها المزيفة .
وحين قررنا الحديث معها عن يوم استشهاده ، كان قراراً أحمق ، أن تحدث والدة شهيد عن هذه اللحظات فتقول دموعها قبل حروفها ، " جاء نصف الخبر في البداية ، وبعد ان أكتمل وأصبحت كلمة "أم الشهيد" لقبي ، هي لحظة لا توصف ، كان كل حياتي ، فانا يتيمة الأب والام والاخوة ، كان كل شيء ، لماذا رحل عني ، ترك من الفراغ ما لن يستطيع أحداً ملئه ، ثماني أعوام على فراقه .. هل نسيت "محمد" ؟ ، كيف ننسي زينة الشباب ، لم يكن أحداً مثله ، لا يرحل عن خاطري وبالي للحظة .. محمد ما زال حياً "
الجبل الشامخ .. والد الشهيد
تنظر إليه وتشعر للوهلة الاولى أنك أمام جبلاً لا تهزه الرياح والأعاصير ، ولكن هناك كلمة سر واحدة تجعل دموع هذا الجبل تأكل جسده ، أنه والد الشهيد "محمد" .
هل أنت والد الرجل "محمد القيشاوي" ، صحيح ، ولكنه طفل ، كنا نعتقد ذلك ، أبنك يا عزيزنا رجلاً وطموحه السياسي أكبر ، أنه يتحدث كغير الأطفال ويمارس وطنيته بكل عناد وانتماء .. كان ذلك حوار بين "أبو باسل القيشاوي" وأحد مدرسي الشهيد .
ما أصعب ان تكون صحفي ووالد شهيد ، كيف يمكن ان تتغلب المهنية على الانتقام الداخلي لأبنه الحبيب ، يقول المدير العام لوكالة خبر الفلسطينية للصحافة ، سامي القيشاوي ، أو لقب "والد الشهيد" لربما يكون أفخم وأكثر قامة ، " أبني كان رجلا منذ صغره ، كان جميع المدرسين يقولون لي ذلك ، درس الاعدادية في مدرسة صلاح الدين والثانوية في مدرسة شهداء الاقصى ، لم أكن أعلم ان اسم المدرسة سيكون الفصل الاكبر في حياته .
ويكمل والد الشهيد وهو يحاول إخفاء دموعه ، "فكره السياسي كان ينمو أمام عيني ، كنت أعلم أني سأحمل لقب "والد الشهيد" يوماً ما ، فذلك بات واضحاً من تحركات وحديث وممارسة "محمد" ، كان يعشق حركة "فتح" والرمز الراحل "ياسر عرفات أبو عمار" ، كان طفلاً جميلا جداً ".
سقطت دموع الجبل .. 15/11/2007 عيد الاستقلال كان الشهيد يبلغ من العمر "19 عام وبضع شهور" ، كنت في إجازة من عملي ، خرجت لأتسوق مع والدته ، وعدت للبيت لأجده قد خرج ، جاءني أصعب اتصال في حياتي من أحد الأصدقاء في كتائب الاقصى – لواء العامودي ، ليخبرني بنصف الخبر ، أبنك "محمد" مصاب ، اتصلت بأخيه كان عريساً جديد ليتفقد الأمر ، ولكن سرعان ما أكتمل ، فلا يعقل أن اكون صحفي وأنقل الخبر ناقصاً ، أصبحت والد الشهيد البطل ببضع كلمات "احتسب محمد عند الله شهيد " .
ولكني كنت متوقعاً ذلك ، لقد روضت نفسي لمثل هذا اليوم ، لان محمد كان يدربني على ذلك ، كل شيء كان يقول أنه يتجه نحو الشهادة ، كانت حلمه حتى نالها ، يوم زفافه للجنة ، كان يوم احتفال وطني .. لم يكمل "أبو باسل" ولكن دموعه قالت .. محمد ما زال حياً " .
"أخت الشهيد" .. جنين
كيف يمكن إعادة الزمان للخلف ؟ ، هل هناك من يستطيع ذلك ؟ ، لا أريد أن أشتري أو أقول أو أمارس شيئاً نسيته ، بل أريد توديع شخصاً لم يعد بجانبي ، أريد تقبيل أخي .
"كلمات تكتب بحبر الدموع لا حبر القلم ، كيف يمكن إعادة الزمن ، يأكلنا الندم وسأشعر بذلك بقية عمري ، فأنا لم أود رفيق دربي ، هكذا بدأت "جنين" شقيقة شهيدنا البطل حديثها" .
تقول صاحبة لقب "أخت الشهيد" ، "عندما جاء خبر استشهاد أخي لم أصدق الأمر ، رغم صغر سني ولكن في هذه اللحظة بدأ الوعي يكتمل لديه ، فأنا سأفقد ظهري وصديقي ورفيقي منذ ولادتي "
تكمل جنين فتقول ، " بعد ذلك ، فقدت الاحساس ، لربما تكون بلادة صعوبة الخبر ، في مراسم الجنازة والعزاء بدأت أستوعب الامر ، فعلاً لقد فقدت نصفي الاخر ، لأول مرة يأتي حبيبي محمولاً على الاكتاف للبيت ، رفضت توديعه لتبقي هذه اللعنة ذكرى أليمة مدي الحياة ترافقني ، كان صديقي ، لم أكن أخشي أن ألقي بنفسي في حضنه وأصرخ وأتحدث بكامل عفويتي .. أفتقده كثيراً ولكن "محمد مازال حياً " .