لكل كتاب أجل

طلال عوكل.jpg
حجم الخط

بقلم: طلال عوكل

مرحلة ترامب التي امتدت فقط لأربع سنوات لم تكن عبثية، ولم يكن الرئيس الذي حظي بدعم سبعين مليون صوت شعبي مجرد شخصية مريضة، معزولة عن التطورات التي تعصف بالمجتمع الدولي وبالولايات المتحدة التي تتربع على عرش القوة العالمية منذ عقود طويلة.
ها هو بايدن الديمقراطي، الذي يحاول استعادة الدور التقليدي للولايات المتحدة، ويبدو أنه شخصية مرنة، ومتوازنة، يواجه التحديات ذاتها، التي واجهتها إدارة ترامب.
كان الرئيس ترامب فظاً في محاولة كبح جماح المتغيرات الدولية التي تهدد بإزاحة الولايات المتحدة عن عرش القوة العظمى الأولى، وراح يوظف القدرات الهائلة لبلاده، لإعادة السيطرة على النظام العالمي بما في ذلك إخضاع حلفاء أميركا التاريخيين لخدمة تعزيز القوة الأميركية حتى لو أدى ذلك إلى قدر من الاعتراض والمقاومة السلبية.
فتح ترامب النار في مختلف الاتجاهات، واستخدم سلاح العقوبات على روسيا والصين وإيران وشن هجوماً على الأمم المتحدة، وتنصّل من عديد الاتفاقيات الدولية، وحارب الهجرة وحرض على المهاجرين، ورفع منسوب التوترات العنصرية، وكل ذلك من أجل تحصين مكان وقوة الولايات المتحدة، وتأخير التقدم الصيني في اتجاه انتزاع مكانتها. لو قدر لترامب ان يحظى بولاية ثانية لكان تابع بقوة وبتفويض من المجتمع، لمواصلة الحرب على كل زاوية يمكن أن تشكل تهديداً لمكانة البلاد وللنظام العالمي الذي تديره.
بدايات مرحلة بايدن، حملت إشارات على أنه سيحاول إعادة ترميم ما فعله ترامب، ونحو تركيز الجهد في مواجهة الصين التي اعتبرها التهديد والعدو الأول للولايات المتحدة.
في هذا السياق، يسعى بايدن لإعادة بناء العلاقة التقليدية مع أوروبا، ولإعادة تنشيط دور حلف «الناتو»، ومواصلة تحمل المسؤولين عن أمن حلفائه مع محاولات، لتحفيزها على تحمل المزيد من المسؤولية عن أمنها.
وفي هذا السياق أيضاً، يحاول العودة الى الاتفاق الدولي بشأن البرنامج النووي الإيراني، بعد ان استخدمت بلاده في سنوات سابقة أقصى العقوبات ولكنها فشلت في أن تخضع إيران، بل ان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق (خمسة + واحد)، وفر الفرصة لإيران لتجاوز الاتفاق باتجاه رفع مستوى التخصيب.
وعلى جبهة الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي، يحاول بايدن إعادة تموضع الدور الأميركي الفاعل في إدارة الصراع، ما يقتضي إعادة قنوات الاتصال والدعم مع الفلسطينيين، إذ من غير الممكن مواصلة دور الوسيط في ظل قطع العلاقة مع الطرف الفلسطيني.
وبصرف النظر عما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة ان تحقق اختراقاً في ملف التسوية الإسرائيلية الفلسطينية، إلا ان مؤشرات السياسة الأميركية إزاء هذا الملف، تضمن على الأقل عدم انفجار الوضع دون ان تتخلى عن التزاماتها الاستراتيجية تجاه حليفتها إسرائيل.
مشكلة بايدن وإدارته، أنه عليه ان يراجع كل الملفات التي فتحها سلفه ترامب، واحدث فيها شروخاً عميقة، والمشكلة الأخرى انه لا يستطيع جدولة أولوياته، بسبب الانفجارات التي تقع في غير مكان وتسبب له إرباكاً شديداً.
فيما الأوضاع الداخلية لا تزال مقلقة، بأبعادها الاجتماعية بما يهدد وحدة وسلامة وامن المجتمع، تتفاجأ الإدارة الأميركية بانفجار الأوضاع بين روسيا وأوكرانيا وربما يتبع ذلك وفي وقت قريب، تحرك الصين في اتجاه هونغ كونغ.
في الملف الإيراني، تواجه الولايات المتحدة اعتراضا عمليا قويا من قبل إسرائيل، التي تتصرف وحدها وتحاول إفشال المفاوضات بين أطراف الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني. بكل وقاحة تعلن إسرائيل معارضتها ومقاومتها للمحاولات الجارية، وتتسم بالإيجابية نحو عودة الولايات المتحدة للاتفاق، ورفع العقوبات عن إيران.
بينما كان وزيرا الدفاع الأميركي والإسرائيلي يجريان مفاوضات في إسرائيل، قامت الأخيرة بشن هجوم سيبراني إرهابي على موقع نطنز الإيراني ما رفع مستويات التوتر.
الحرب جارية بين إسرائيل وإيران، سواء في سورية، أو في الداخل الإيراني، أو في عرض البحار. مبدئياً ردت إيران على العمل الإرهابي الإسرائيلي الأخير بقصف سفينة تجارية إسرائيلية بالقرب من شواطئ دولة الإمارات العربية، وهي السفينة الثالثة التي تتعرض للانتقام.
تحاول إسرائيل جر القوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة للتدخل على نحو مباشر في صراع من المحتمل ان يتسع بين إسرائيل وإيران، خاصة وان السلوك الإسرائيلي يلقى رضا من قبل الدول العربية التي تضع التهديد الإيراني في مقدمة أولوياتها واهتماماتها.
إلى ذلك وبالتزامن، يتصاعد التوتر العسكري والأمني، بين أوكرانيا وروسيا، ما ينطوي على إمكانية تدخل «الناتو» والولايات المتحدة في هذا الصراع القابل للانفجار في كل لحظة.
هذا في المختصر يعني أن النظام العالمي التقليدي يمر في مرحلة انتقالية من المرجح أن تشهد انفجار صراعات حربية في مناطق عديدة من العالم، ما يعد استحقاقاً لتغيرات جذرية دراماتيكية في ترتيب عناصر القوة الدولية، وفي طبيعة النظام العالمي الجديد الذي يوشك أن يولد.