في جدلية الوطن والوطنية والمواطنة

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد المجيد سويلم

الذي يحفّز على كتابة مقال بهذا العنوان عموماً كبير الى أبعد الحدود. أما الذي يحفّز عليه، الآن، بالذات فهو الانتخابات سواء بالنسبة لأهلنا في الداخل، أو للجزء المحتل من أرضنا بعد العام 1967، أو حتى الانتخابات التي يمكن ان تجري بين صفوف أبناء شعبنا في هذا البلد او ذاك، او في هذا التجمع او غيره للمجلس الوطني الفلسطيني كما هي محددة في المراسيم الرئاسية.
أما الذي يدعو إلى محاولة فك (الاشتباك) بين هذه المفاهيم الثلاثة فهو هذا القدر الكبير من التشويش الذي بتنا نلحظه في الآونة الأخيرة بينها، وخصوصاً في أتون «المعارك» الانتخابية.
الفلسطيني ينتمي إلى وطنه، ووطنه هو فلسطين بصرف النظر فيما إذا كان هذا الوطن «متاحاً» أم لا، وبصرف النظر عما إذا كان المتاح منه مقيداً كثيراً أو قليلاً.
الثابت أن كونه غير متاح، او كونه ليس متاحاً إلا جزئياً لا يغير انتماء الفلسطيني إليه، وانتماء الفلسطيني الى فلسطين كلها، وليس الى ربع الوطن او ثلثه او نصفه. وليس للفلسطيني أي وطن سوى هذا الوطن.
وهو وطنه حتى ولو لم يكن «مواطناً» فيه، ولديه «مواطنة» في بلدان كثيرة خارج وطنه، في حين ان مواطنته مقيدة كثيراً في هذا الوطن، وهي عرضة للتبديد والتهديد، وتشكل استهدافاً مباشراً لأعدائه. عدم وجود دولة للشعب الفلسطيني لا يعني من قريب أو بعيد ولا يلغي وطنه الذي عاش فيه عبر تاريخ طويل ومؤكد وموثق ولا يحتاج الى شهادات او إثباتات من أي نوع.
إذاً، ليست الدولة هي الوطن، وليست المواطنة هي معيار الانتماء إلى هذا الوطن.
مع الفارق المعروف، والاختلاف الجذري، والتناقض التام بين الرواية الصهيونية والرواية الفلسطينية، فإن الحركة الصهيونية قد أسست مشروعها على «وجود» «شعب» ووجود «وطن»، وإقامة دولة على جزء من هذا «الوطن»، وهي تحاول، اليوم، استكمال مد سيطرتها هذه «الدولة» على كامل هذا «الوطن»، وقد قبلت في حينه قرار التقسيم كما نعلم، ونعلم لماذا وكيف قبلت. وبالنسبة لنا، ومن باب أولى، طالما أننا، نحن أصحاب هذا الوطن الأصليون والشرعيون تاريخياً ـ وليس أسطورياً ـ وطالما أننا كنا فيه دائماً، ولم تتبرع لنا به أي جهة، وإنما بنيناه كما تبني كل شعوب الأرض أوطانها، فإنه يظل وطننا كاملا غير منقوص ولا بسنتيمتر واحد.
لكننا لا نملك على ارض هذا الوطن دولة خاصة بنا، ومواطنتنا فيه وعليه مجزوءة ومقيدة، بل ومهددة وعرضة للتبديد.
أول تجليات هذه الجدلية في الواقع الفلسطيني هو أننا نحاول إقامة دولة خاصة بنا على الجزء المتاح منه، لإقامة هذه الدولة.
وثاني تجليات هذه الجدلية أنه طالما ليس بالإمكان لأسباب معروفة إقامة هذه الدولة على كامل الوطن، فإننا نظل مطالبين بإقامة الدولة على أي جزء من الوطن.
ثالث هذه التجليات ان إقامة الدولة على جزء من الوطن تشترط سياسياً التخلي عن الجزء المتبقي.
التخلي ليس عن الوطن، وإنما عن امتداد مساحة الدولة عليه. وهذه المسألة تحتاج إلى حوار فكري وسياسي جديد لا يتسع المكان هنا لمثله.
رابع تجليات هذه الجدلية أن «المواطنة» إذا تحولت الى هدف ـ أي علاقة الفرد بالدولة ـ أو تحولت الى أولوية في الواقع الفلسطيني القائم فإن هذا التحول موضوعياً سيؤدي إلى تبديد المشروع الوطني في حالة الأرض المحتلة، وإلى تهشيم الحقوق القومية في حالة الداخل، وإلى ضياع الحقوق كاملة بالنسبة للشتات.
لأن «المواطنة» هنا ـ بقدر ما هي علاقة للفرد مع الدولة ـ هي علاقة بين الفلسطيني وبين دولة استعمارية ـ كولونيالية، في حالة الاحتلال، وإلى دولة عنصرية تجاهر وتعمل وتكرس كونها دولة لشعب آخر، وهو ـ كما ترى هذه الدولة بالذات ـ هو صاحب الحق الحصري فيها، وأن (الآخر) هو مقيم من درجة معينة من المواطنية، ما زال معرضاً للتهجير، وما زالت مواطنيته رهينة لاعترافه بمبدأ تبعية هذه الدولة لشعب آخر، كذلك فإن هذه العلاقة في حالة الفلسطيني الخاضع للاحتلال العسكري المباشر، هي مواطنة مصادرة في الواقع، ومقيدة بصورة محكمة، ومسيطر عليها، وعرضة للاستهداف اليومي المباشر من قبل كافة منظومات الاحتلال.
والوطنية هنا تعني أن الشعب الفلسطيني يمتلك مشروعاً ونهجاً يهدف الى التحرر من الاحتلال والى الاستقلال الوطني، والحق بتقرير مصيره على ما هو متاح من وطنه.
ولهذا فإن الوطنية الفلسطينية هي الأيديولوجية السياسية للشعب الفلسطيني، وهي الوحيدة التي تجسد العلاقة الجدلية بين الوطن والمواطنة وحصرياً عبر الدولة الوطنية التي لم تقم بعد.
ولذلك فإن المواطنة في الحالة الفلسطينية هي جزء عضوي وأصيل وصميمي من الحقوق الوطنية التحررية للاستقلال الوطني، وهي جزء أصيل وعضوي وصميمي أيضاً من الحقوق القومية لشعبنا في الداخل. هنا لا تجوز المفاضلة على الإطلاق بين «مواطنة» يريدها لنا الاحتلال في هيئة سلام اقتصادي في الأرض المحتلة، وتريدها الدولة الصهيونية «مساواة» مشوهة على هيئة مطالب مدنية وحياتية ومنزوعة بالكامل ومجردة كلياً عن الحقوق القومية للأهل في الداخل الفلسطيني. المواطنة في حالة الدولة الاحتلالية، وفي حالة ـ دولة الشعب اليهودي الحصرية ـ هي أقرب إلى الرومانسيات المدنية المزعومة، وهي عملية خداع خطرة لا يجدر الوقوع في شركها.
علاقة الفرد في الأرض المحتلة بالدولة ملتبسة بالعلاقة مع السلطة محدودة او معدومة السيادة والصلاحيات في الضفة، أو المقيدة المحاصرة في قطاع غزة، وهي ليست علاقة المواطنة بالدولة لأنها ببساطة ليست قائمة بعد.
ولهذا كله فإن محاولات نزع البرامج الانتخابية للعلاقة ما بين الحقوق الوطنية وأولويتها المطلقة عن متطلبات الحياة، في الأرض المحتلة، وعن الحقوق الوطنية لأهلنا في الداخل، وتصوير المصالح الحياتية على أنها هي الأولوية المطلقة كما جرى في سلسلة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، إنما يعتبر بكل المقاييس تشويها منظما لهذه الحقوق على الجانبين، وهو عملية مخادعة وجوهرها التماهي المباشر او غير المباشر مع المشروع الصهيوني.
لا مقارنات، ولا توازنات، ولا مفاضلات، هناك فقط أولوية وطنية، وحقوق قومية، ومنها وكجزء أصيل منها ومن جوهرها ومضمونها أيضاً هناك حقوق مدنية وحياتية.
ليست ضمنياً ولا وطنياً أن نفك الارتباط، تحت أي ذرائع بين الحقوق الوطنية والقومية وبين المتطلبات الحياتية.
وليس مشروعاً ولا مقبولاً أن يتم التماهي مع المشروع الصهيوني تحت وابل من دخان الغشاوة والتعمية والذي يراهن على احتياجات الناس ومطالبهم بهدف نزعها عن بعدها الوطني الأول والأصيل.
ومن حيث المبدأ والمنطق، والقراءة العلمية والتاريخية فإن شعبنا في الداخل يريد ان ينزع الطابع الصهيوني عن الدولة الإسرائيلية وهذا حقه وواجبه، وهدفه الأول والأهم، وشعبنا في الأرض المحتلة يريد التحرر من الاحتلال وطرده منها وإقامة دولته عليها، وشعبنا في الشتات يريد أن يعود ويريد أن يعيش في وطنه او في دولته على الأقل كمواطن في دولة وطنية مستقلة.
كل حقوق أخرى مهما كانت مهمة، ومهما كانت ضاغطة، ومهما كانت حيوية في مراحل معينة هي مجرد تفرع وامتداد للحقوق الوطنية في الحالة الفلسطينية الملموسة.
ولنا عودة.