يبدو أن توقيت التفجير في مفاعل نطنز الإيراني جاء بتدبير إسرائيلي مدروس تزامنا مع زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستين، وبعد وصول أنباء عن تقدم في مفاوضات فيينا حول عودة الولايات المتحدة، إلى اتفاق 2015 مع إيران، وفي خضم الانتخابات الإيرانية، وفي تزامن مع المسعى المحموم الذي يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتشكيل حكومة جديدة.
جاء هذا التفجير في إطار استراتيجية «المعركة بين الحروب» التي تتبعها إسرائيل منذ عام 2016، والتي شملت استهداف المنشآت النووية الإيرانية، والتواجد والتأثير الإيرانيين في سوريا والعراق ولبنان، والسفن البحرية التجارية والعسكرية الإيرانية في عرض البحر، وشملت ايضا اغتيالات لعلماء وعسكريين إيرانيين، واستهدافا لسوريين ولبنانيين وفلسطينيين، تتهمهمإسرائيل بالارتباط بالجهد العسكري، وبمشاريع التسلح، وتدقيق الصواريخ الإيرانية. وما حدث هذا الأسبوع من تصعيد بقي في إطار «المعركة بين الحروب» وليس فيه خروج عن حدوده، فلا إسرائيل تريد حرباً شاملة ولا إيران.
لقد انتشرت في الماضي تحليلات وتقديرات، بأن إسرائيل ستضطر إلى وقف اعتداءاتها المتكررة ضد إيران ومصالحها في المنطقة، خوفاً من اندلاع حرب شاملة مدمرة. هذا لم يحدث، وما يجري هذه الأيام هو العكس وإسرائيل أكثر اندفاعاً في عدوانها، حيث تقدر أن التأثير الأمريكي في إيران قد تقلص بعد انتخاب بايدن، الذي يعبر عن استعداده لرفع العقوبات والعودة للاتفاق النووي بشروط، لا تكتفي بها إسرائيل. أكثر من ذلك، القراءة الإسرائيلية هي أن الانسحاب الأمريكي المرتقب من العراق وسوريا وأفغانستان، يخلق حالة فراغ، ستضطر إسرائيل إلى ملئه حفاظاً على «أمنها» وعلى أمن حلفائها في المنطقة، مع الفرق الشاسع في التعاطي مع الأمنَين. قبل عقد من الزمن، جرى تدمير قسم كبير من أجهزة الطرد المركزي في منشأة نووية إيرانية. كانت تلك عملية إسرائيلية أمريكية مشتركة، هدفت إلى إبطاء تقدم إيران نحو إنتاج سلاح نووي، وإلى جرها إلى مفاوضات دبلوماسية، للتوصل إلى اتفاق. يبدو هذه المرة أن إسرائيل قامت بالعملية لوحدها، مع احتمال كبير أنها استعانت بمعلومات مخابراتية أمريكية، فالولايات المتحدة أعدت في الماضي، كما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» خططاً تستهدف الشبكات الكهربائية في إيران (عموما وفي بعض المدن والمواقع) لكنها لم تخرج إلى حيز التنفيذ أمريكياً، وإسرائيل هي التي استفادت منها في إطار التعاون الأمني الوثيق والحميم بين الأجهزة العسكرية والمخابراتية في البلدين. من غير المعقول أن إسرائيل فاجأت الأمريكيين بمثل هذه العملية، وفي يوم زيارة وزير الدفاع الأمريكي. لقد رفض المتحدثون الأمريكيون الرد على سؤال ما إذا كانت الولايات المتحدة قد أُبلغت بعملية نطنز، ولم يذكر الوزير الأمريكي كلمة «إيران» في مؤتمرَين صحافيَين عقدهما خلال مكوثه في إسرائيل، في أول زيارة له خارج الولايات المتحدة بعد توليه المنصب. الأرجح أن الإدارة الأمريكية كانت على علم مسبق بالعملية الإسرائيلية، فمن الصعب تصور أن إسرائيل كانت ستفاجئ وزير الدفاع الأمريكي وهو يهبط بطائرته في تل أبيب، من دون أن تعرف مسبقا رد فعله، الذي كان في الواقع صمتا متفقا عليه. ويقودنا التحليل لطبيعة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية إلى أن هناك تنسيقاً بين البلدين تقوم إسرائيل، تبعا له، بتنفيذ «أعمال قذرة» لإضعاف موقف إيران في المفاوضات، وتلوح فيه الولايات المتحدة بأنها «لا تستطيع» كبح جماح الجنون الإسرائيلي، إذا لم تقبل إيران بالشروط الأمريكية. ومن المهم الإشارة إلى تسريبات من جهات أمنية إسرائيلية مفادها أن الولايات المتحدة لم تطلب من إسرائيل وقف ما يسمى «حرب الظل» ضد إيران وضد المصالح الإيرانية.
يبدو أن إيران قرأت جيدا أن الهدف من تخريب شبكة تزويد الطاقة في المنشأة النووية في نطنز هو إضعاف موقف إيران التفاوضي في فيينا، وإضعاف برنامج التخصيب، فردت بذكاء وأبلغت وكالة الطاقة النووية الدولية عن رفع مستوى تخصيب اليورانيوم من 3.67% كما ينص الاتفاق النووي إلى 60% ما يجعلها تقترب من نسبة 90% اللازمة لإنتاج السلاح النووي. هذا ليس ردا على الهجوم الإسرائيلي فحسب، بل محاولة إيرانية لتقوية الموقف في المفاوضات، عبر استعمال نسبة التخصيب المرتفعة كورقة ضغط تفاوضية. كذلك أعلنت إيران عن استبدال أجهزة الطرد المركزي التي أتلفها التفجير في عمق أرض منشأة نطنز، بأجهزة جديدة أكثر نجاعة في إنتاج اليورانيوم المخصب. هاتان الخطوتان هما رسالة واضحة للجميع بأن الهجمات الإسرائيلية تؤدي إلى تسريع المشروع النووي الإيراني وليس إلى وقفه أو ابطائه. أما إطلاق الصواريخ الإيرانية على السفينة التجارية «هيبريون ري» التي يملكها رجل الأعمال الإسرائيلي رامي أونغر، والتي ابحرت قبالة ساحل الفجيرة في الإمارات، فهو في مجال «الحرب البحرية» ورد على الهجمة الإسرائيلية على سفينة «سافيز» الإيرانية في البحر الأحمر. وإذ تباهت إسرائيل بأن الأضرار كانت بسيطة وبأنه لم يكن إسرائيليون على متن السفينة، فإنه من الجلي أن إيران لم ترد سوى توجيه رسالة إلى إسرائيل بأنها قادرة على إصابة الهدف بدقة، وتستطيع تدمير هذه السفينة أو غيرها عند الحاجة. والأضرار البسيطة كانت تعبيرا عن الدقة في الاستهداف، وليست نتيجة خطأ في التصويب. أما الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام عن تفجير مكتب للموساد في كردستان العراق، فهي غير مسندة بالأدلة حتى الآن، وتعاملت معها وسائل الإعلام الإسرائيلية على أنها «أخبار غير موثوقة».
من شبه المؤكد أن هناك وجوداً للموساد في مناطق شمال العراق، إذ ترتبط أطراف كردية، وجهات أمنية إسرائيلية بعلاقات وثيقة ومتواصلة منذ عشرات السنين. هذا الوجود الإسرائيلي على أراض عراقية سيادية يناقض القانون العراقي، وسياسة بغداد الرسمية، وآن الأوان للتعامل معه عراقيا وعربيا، إذا صح التعبير الثاني.
تتجاوز الخطة الإسرائيلية مسألة توجيه ضربات إلى المشروع النووي الإيراني، وتعطيل مؤقت لأجهزة طرد مركزي، وتهدف أيضا إلى التأثير في الحالة السياسية في إيران، عشية الانتخابات الرئاسية هناك. أكثر ما يزعج إسرائيل أن يكون الموقف الإيراني متوازنا ومنفتحا على التفاهم والاتفاق مع المجتمع الدولي. هي تريد وتفضل نظاماً يقبل بشروطها، لكنها تعلم أن هذا أمر مستحيل، لذا تسعى، عبر هجماتها المتكررة وعبر التصعيد المتواصل، إلى خلق حالة من الغليان في المجتمع الإيراني يدفع باتجاه هيمنة التيار المحافظ والمتشدد، أملًا منها بأن يقوم هذا التيار برفض كل شروط الولايات المتحدة، ويدخل في صدام مجدد معها ومع غيرها. وعندها سيكون من الأسهل إقامة تحالف دولي لمحاصرة إيران ووقف برنامجها النووي بالشروط الإسرائيلية. على الرغم من الأهمية التي توليها المؤسسة الأمنية والسياسية في إسرائيل لمواجهة «التهديد الاستراتيجي الإيراني» إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مشغول بخطر داهم آخر وهو عدم قدرته على تشكيل حكومة، وإمكانية خسارته لمقعد رئاسة الحكومة، وتعرضه للمحاكمة كمواطن عادي، ما يزيد من احتمال دخوله السجن، كما حدث مع سلفه إيهود أولمرت، الذي قال هذه الأسبوع إن «نتنياهو يتبجح مختالًا وهو مستعد لبيع أمن إسرائيل مقابل أمنه الشخصي». لم يكن هذا موقف أولمرت وحده، فقد تحدث وزير الأمن الإسرائيلي بكلمات مشابهة وطلب من الشاباك التحقيق في «تسريب خطير لمعلومات امنية حساسة». المهم أن لا نقاش في إسرائيل حول العملية نفسها، بل فقط حول تسريب معلومات عنها.
هناك شبه إجماع لدى المحللين والصحافيين في إسرائيل أن التسريب جاء من مكتب نتنياهو ومكتب حليفه ووريثه المفضل، رئيس الموساد يوسي كوهين. ومن الواضح أن خلق حالة طوارئ أمنية قد تشكل غطاءً لمن رفضوا حتى الآن الدخول في حكومة مع متهم بالفساد، كما يقولون. التسريب هو مصلحة سياسية لنتنياهو، وحتى لو عارضته المؤسسة الأمنية، فهو لن يتورع عن القيام بالمزيد من التصعيد والتسريب، إذا اعتقد أن هذا يزيد من فرص تشكيله لحكومة جديدة. لهذا نتنياهو هذه الأيام هو كالذئب الجريح، وخطير بالذات لأنه يشعر بأنه بدأ يضعف. أما العرب، الذين تحالفوا معه عله يساعدهم في حماية عروشهم، فعليهم أن يعلموا أنه لم يعد قادرا على حماية عرشه هو. على هؤلاء العرب أن يفكروا قليلًا بما يحدث في المنطقة: الولايات المتحدة تنسحب وتسعى للتفاهم مع إيران، وإسرائيل تتخبط ولن تعينهم بشيء. لقد آن الأوان لمبادرة سلام عربية جديدة، سلام مباشر مع إيران، العرب مع جيرانهم الفرس بلا وساطة أمريكية، وبلا احتماء بالمظلة الإسرائيلية المخرومة. آن الأوان أن يكون العرب مع أنفسهم وليس عرب أمريكا أو «عرب إسرائيل».
* رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48 .