بتنا في وضع لا نستطيع أن نتراجع عن إجراء الانتخابات من دون دفع ثمن باهظ، أقلّه الإطاحة بما تبقى من شرعية ومصداقية للسلطة والقوى المهيمنة، وفتح الباب أمام المجهول، وتفاقم الانقسام والصراعات الداخلية، ولا أن نمضي في إجرائها، لأن ذلك يعني أن المعركة الانتخابية يمكن أن تكون حامية جدًا، ويمكن أن ينتج عنها خارطة قوى تمثيل داخل المجلس التشريعي جديدة وتعددية، وبالتالي ستتغير السلطة، ويمكن أن يفتح هذا التغيير الباب لإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة، وتقوية الوضع الفلسطيني، داخليًا وخارجيًا، كما يمكن أن يفتح الباب لصراعات داخلية، لأن مصادر القوة لا تنحصر بالتشريعي، وإنما تتركز في الحكومة والأجهزة والرئاسة، وأيضًا في منظمة التحرير، ولن تكون هذه المرة إن اندلعت بين حركتي فتح وحماس فقط، وإنما فتحاوية فتحاوية.
في أي اتجاه ستسير الأحداث؟ يتوقف ذلك على كيفية تصرف قيادة فتح بصورة عامة، والرئيس محمود عباس بصورة خاصة.
يتوقف مصير الانتخابات إلى حد ما على استمرار ونجاح الجهود التي تستخدم العصا أكثر من الجزرة لإقناع قائمة "الحرية" بالانسحاب من السباق الانتخابي، وهذا متاح حتى نهاية هذا الشهر، وهذا الأمر مرفوض لأنه يمثل انتحارًا سياسيًا، فإذا انسحبت قائمة "الحرية" فستجري الانتخابات على الأرجح، وإذا لم تنسحب ستقفز مسألة الانتخابات في القدس إلى الأمام، وتستخدم على طريقة حق يراد به باطل. فما الذي يدفع إلى قول ما سبق؟
قائمة "فتح" لن تحصل على الأغلبية
هناك مؤشرات تقول بأن قائمة "فتح" المركزية لن تحصل على الأغلبية، وربما لن تكون القائمة الأولى، ومتوقع أن تحصل على 25-30% من الأصوات، وفق الاستطلاعات المختلفة، وهذا يضعها أمام حتمية قبول تغيير كبير في خارطة القوى الداخلية لحركة فتح وفي السلطة، من خلال حسمها أو رفضها لخيار التفاهم مع قائمة الحرية، وتحديدًا مع مروان البرغوثي وناصر القدوة، الذي يمكن أن يحدث بعد الانتخابات، وهذا الرأي (التفاهم) له أنصاره حتى داخل اللجنة المركزية منذ الآن .
أو المضي قدمًا في الانتخابات، والسعي لاضعاف قائمة "الحرية"،
وعدم تمكينها من الحصول على المتوقع لها، وهو 20-25% من الأصوات كما توقع أهم خبير في الاستطلاعات.
وإذا أضفنا إلى ما سبق ما يمكن أن تحصل عليه قائمة "المستقبل"، وهو سيكون بحدود 10-15%، فهذا أمر خطير بالنسبة لحركة فتح، كون التفاهم متعذرًا إلى حد كبير مع هذه القائمة، وهي على العكس يمكن أن تتحالف مع قائمة "القدس موعدنا" التي ستحصل كما تشير التقديرات والاستطلاعات على 30% من الأصوات، أكثر قليلًا أو أقل قليلًا، ما يعني أن "المستقبل" و"القدس موعدنا" بحاجة إلى قائمة أو قائمتين أو أكثر من القوائم الأخرى التي يمكن أن تحصل مجتمعة على ما تبقى، أي على 12-15%، لكي تحصل على أغلبية تمكنها من تشكيل حكومة من دون حركة فتح إذا تعذر تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة وفاق وطني.
طبعًا، هناك سيناريوهات أخرى غير سيناريو تشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني، كسيناريو حكومة مشكلة من "فتح" و"القدس موعدنا" بشكل أساسي، وسيناريو "المستقبل" و"القدس موعدنا" وقوائم صغيرة أخرى، وسيناريو حكومة من حركة فتح و"الحرية" وقوائم صغيرة أخرى.
ما سبق يعني أن من يدعون إلى تأجيل الانتخابات في قيادة "فتح" يبررون وجهة نظرهم بأن الانتخابات القادمة لا تحمل فقط احتمال خسارة "فتح" للأغلبية والقائمة الأولى، وإنما خسارة السلطة التي كان بمقدورها أن تحصل عليها لو نجح الاتفاق الفتحاوي الحمساوي القائم على خوض الانتخابات التشريعية بقائمة وطنية (أو بالأحرى قائمة مشتركة)، وخوض الانتخابات الرئاسية بمرشح واحد توافقي، وهو الرئيس محمود عباس.
وعلى رأي أحدهم: تأجيل الانتخابات وتحمّل مزايدات وانتقادات لأسبوع أو أسبوعين أفضل بكثير من خسارة السلطة، وردود الأفعال الإسرائيلية والأميركية السلبية على ذلك.
النتائج المجهولة وراء التأجيل
لو نجح الاتفاق الثنائي بين حركتي فتح وحماس لتمت الانتخابات بسهولة ويسر، ولكانت نتائجها مضمونة أو شبه مضمونة. أما الآن، فالنتائج مجهولة، لأن نتائج الاستطلاعات ليست حقائق، ويمكن ألا تكون دقيقة، ويمكن أن تتغير من هنا حتى إجراء الانتخابات لأسباب ومتغيرات داخلية وخارجية، ولكن مهما كان التغيير الذي يمكن أن يحدث لا يمكن لأي قائمة وحدها الحصول على الأغلبية.
لذا، فزاعة فوز "حماس" التي تختفي وراءها واشنطن وتل أبيب، وربما أطراف عربية أخرى ليست حقيقية، فحماس لن تحصل وحلفاؤها المحتملون على الأغلبية، ولن تصل إلى حاجر 50%، فحماس ستكون في المجلس القادم – إن جرت الانتخابات – أقل تمثيلًا بكثير مما كانت عليه في انتخابات 2006 (74 نائبًا و4 مستقلين دعمتهم )، حيث كانت لها الأغلبية، وشكلت الحكومة منفردة برئاسة إسماعيل هنية.
إن ما يدفع أميركا وإسرائيل إلى تفضيل تأجيل الانتخابات ليس فوز "حماس"، بل إنها ستقوي الفلسطينيين، ونتائجها غامضة وغير مضمونة، ويمكن أن تحمل إلى جانب "حماس" قائمة وازنة بقيادة الأسير القائد مروان البرغوثي ورئاسة ناصر القدوة، والبرغوثي ينوي الترشح أيضًا للانتخابات الرئاسية، التي تشير الاستطلاعات إلى أن احتمال فوزه فيها كبير جدًا، ما يعني أن رئيس السلطة القادم إذا جرت وفاز البرغوثي سيكون أسيرًا، وهذا سيعيد الصراع إلى طبيعته الأصلية كصراع بين حركة تحرر وطني واستعمار استيطاني احتلالي إحلالي.
مبادرة الأسرى طوق نجاة لفتح، ولكن ...
في سياق التعقيدات والمخاطر والاحتمالات المذكورة آنفًا، جاءت مبادرة أسرى من حركة فتح التي تتضمن تأجيل الانتخابات، وتعديل القانون الانتخابي بحيث يسمح لمن يريد بالترشح للانتخابات الرئاسية، وبما يتضمن تغيير طبيعة النظام بحيث يمكن ترشح الرئيس محمود عباس مع نائبه مروان البرغوثي في الانتخابات القادمة بعد تأجيل الحالية، وعودة ناصر القدوة إلى اللجنة المركزية لحركة فتح، وإقناع 15 قائمة محسوبة على فتح بالانضمام إلى قائمة الحركة الرسمية، وبذلك تخوض "فتح" الانتخابات القادمة بقائمة واحدة، وتستطيع الفوز فيها.
ملاحظات على المبادرة
الملاحظة الأولى: الانتخابات ليست شأنًا فتحاويًا داخليًا حتى تعقد أو تؤجل بناء على مصلحة "فتح" أو ما تريده، وإنما مسألة وطنية عامة.
الملاحظة الثانية: إن تغيير القوانين، لا سيما الجوهرية التي تحدث تغييرًا على طبيعة النظام، يجب ألا تتم من خلال مراسيم بقوانين التي اكتوينا بنارها بشدة منذ الانقسام، ولا بد من إعادة التشريعات إلى صاحبها الأصلي، وهو المجلس التشريعي القادم الذي سيتشكل بعد 32 يومًا إن جرت الانتخابات في موعدها، ويمكن وضع أي تعديلات قانونية حول طبيعة النظام على رأس جدول أعماله، بحيث تقر أو لا تقر وفقًا لقبول الأغلبية المطلوبة أو عدم قبولها.
الملاحظة الثالثة: هل تملك هذه المبادرة فرصة كبيرة للنجاح، أي هل سيقبلها الرئيس أم لا؟ لننتظر ونرى. وهل هي مجرد مادة جديدة للتجاذب السياسي داخل "فتح" حول الخلافة وتموضع مراكز القوى، وبين "فتح" و القوى والقوائم الأخرى، خصوصًا أن أسرى آخرين نفوا أن تكون هذه المبادرة من أسرى "فتح"، وإنما من بعض الأسرى؟
الملاحظة الرابعة: الخلافات الفتحاوية لا بد أن تحل في إطار داخلي وليس على حساب إيجاد مؤسسة تشريعية للرقابة والتشريع، وليست شخصية فقط، وإنما لها أسباب وجذور عميقة، لها علاقة بالسياسات، وكيفية اتخاذ القرارات، وغياب وتهميش المؤسسات الفصائلية وداخل السلطة والمنظمة، وتحويل "فتح" إلى حزب سلطة، والنظر إلى كيفية تحقيق الوحدة الوطنية، وكيفية خوض الصراع مع الاحتلال، وتجربة المفاوضات السابقة، وكيفية التعامل مع المفاوضات اللاحقة، والنظر إلى السلطة والحكم الرشيد وحرية وكرامة الإنسان وسيادة القانون والحقوق والحريات، وكيفية توفير الاحتياجات المعيشية، وكيفية تفعيل وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير وغيرها.
المهم، أن القائد مروان البرغوثي وقائمة الحرية يرفضان الانسحاب من الانتخابات، وغير مستعدين لتوفير سلم لتأجيل الانتخابات، بحجة القدس أو غيرها، ومن يريد أن يؤجلها فليتحمل مسؤولية القرار وعواقبه.
هل ستعقد الانتخابات؟ لعم
نعم، يمكن أن تعقد الانتخابات في موعدها، لأن هناك مطالبة واسعة بإجرائها، ولم تنجح محاولات التشويش والتهديد وحرف الأنظار عن ضرورة إجرائها، فمعظم القوائم إضافة إلى حركة حماس والجبهة الشعبية يطالبون بإجرائها، كما أن لجنة الانتخابات المركزية قطعت الشك باليقين عندما قالت في بيانها الأخير إنها مستعدة للبحث والتعاون لتنفيذ البدائل لإجراء الانتخابات في القدس التي تتوصل إليها الفصائل، في حال رفضت إسرائيل رسميًا.
ويضاف إلى ما سبق وجود اجتهادَيْن داخل "فتح" بين المؤيدين للتأجيل والمعارضين له، أما أوروبا فعلى عكس ما يشاع، إذ أخبرني مصدر أوروبي رسمي تأييد الاتحاد الأوروبي لإجراء الانتخابات، وتذليل العقبات أمام إجرائها في القدس، وليس عدم إجرائها بحجة الرفض الإسرائيلي.
من الصعب تأجيل الانتخابات من دون رفض إسرائيلي رسمي، وتفهم عربي وأوروبي ودولي، والأهم من دون موافقة فلسطينية، خصوصًا من مختلف القوى والقوائم، و"حماس" تحديدًا التي تعارض تأجيلها حتى الآن، ونأمل أن يستمر موقفها على هذا النحو ولا تُقدِم على صفقة محاصصة مع "فتح" مقابل التأجيل.
ومع ذلك، تستطيع إسرائيل أن تمنع الانتخابات إن أرادت عبر اعتقال العشرات من المرشحين من مختلف القوائم، ومنعها في القدس والمناطق المصنفة (ج)، وخصوصًا المعرضة للضم، ووضع عراقيل كبيرة تحول دون عقدها في الضفة، حتى تستطيع افتعال مواجهة عسكرية مع قطاع غزة، وهذا كله مستبعد أن تصل إليه الأمور، ولكن يجب أخذ كل الاحتمالات بالحسبان والاستعداد لها، وخصوصًا أن إسرائيل معنية بتوفير الذريعة لمن يريد تأجيل الانتخابات.
وإذا منعت إسرائيل الانتخابات لمصلحتها وليس لمصلحة فريق فلسطيني ستفتح الباب لتأسيس شرعية فلسطينية جديدة مبنية على الصراع الأساسي مع الاحتلال، وعلى وحدة وطنية فلسطينية تستند إلى الالتزام بالحقوق والأهداف الفلسطينية، وإلى المقاومة الشعبية الحقيقية.
ممكن أن يكون الرد على منع إسرائيل للانتخابات بإنهاء الانقسام، وتوحيد مؤسسات السلطة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة السياسية والتعددية في إطار، وعلى أساس، مشروع وطني واحد وجامع.
أما إذا وفر الاحتلال الذريعة لتأجيل الانتخابات فهذا يعني أن التأجيل سيكون قفزة في المجهول،ويعمق الإنقسام ويرسخ أن السلطة سلطة حكم ذاتي مقيدة باوسلو وتواصل انفصالها عن الشعب بدلا أن تكون فرصة للتخلص من اوسلو على طريق تغيير السلطة ودحر الاحتلال وتجسيد الحرية والسيادة والاستقلال لدولة فلسطين.