حدائق الحيوانات البشرية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

شاهدتُ، مثل الكثير منكم، صورة على فيبسوك تُظهر عائلة أوروبية جاءت تتفرج على طفل أسود البشرة محبوساً في قفص، وفي التعليق: حديقة حيوانات بشرية في فرنسا! ظننت للوهلة الأولى أنها صورة مزيفة، ولما تأكدت أنها حقيقية، توقعتُ أنها حالة منفردة، ظهرت لفترة قصيرة، ثم اختفت.. وبالبحث تبين لي أن حدائق الحيوانات البشرية كانت ظاهرة معروفة في دول أوروبية عديدة وفي الولايات المتحدة، وأنها ظلت منتشرة لنحو قرن من الزمان، من أواسط القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الثانية.
وهي الفترة التي شهدت ذروة العدوان الاستعماري على شعوب العالم، وكانت الدول الكولونيالية آنذاك بحاجة لتبرير عدوانها واحتلالها تلك البلدان، تحت حجة أن سكانها شعوب بدائية، وأنها ستجلب لهم الحضارة! مدفوعة بأيديولوجيات عنصرية تقوم على فكرة تفوق الرجل الأبيض..
وفي الوقت ذاته، أقدم العديد من علماء الأنثروبولوجيا بدعم من حكوماتهم، على إجراء بحوث ونشر كتب تروج للعنصرية، مستندين إلى تصورات مغلوطة من نظرية التطور، عرفت أفكارهم بالدارونية العنصرية، تدعي أن الرجل الأبيض يأتي على قمة سلسلة تطور الأعراق البشرية، وفي قاع السلسلة يأتي الملونون ثم السود وأخيرا الأقزام!
فتوصلوا إلى فكرة جهنمية تقضي بجلب عينات من الشعوب الأخرى، والتي صنفوها كشعوب بدائية، وعرضها أمام الجمهور، وقد فتحت تلك الفكرة الشيطانية شهية رجال الأعمال، الذين سعوا لتحقيق الأرباح المادية من خلال تنظيم «حدائق حيوانات بشرية»، وتنظيم عروض سيرك لهؤلاء البشر «الغريبين»!
كان الألماني «كارل هاجينيك» أول من أقام حديقة حيوان بشرية سنة 1874، ضمت عائلات من سكان الأسكيمو والأبورجنيز (سكان أستراليا الأصليين) وهنود حمر، وأفارقة سود، وقد لاقت عروضه رواجاً كبيراً، حتى أصبحت موضة في العديد من المدن الأوروبية وفي أميركا.
وأثناء حصار باريس (1870~1871) من قبل بروسيا، وتحت وطأة الجوع، أقدم الأهالي على افتراس الحيوانات المعروضة في حديقة الحيوان قرب برج إيفل، وبدلاً من تعويضها لاحقاً بحيوانات أخرى، فضّلت بلدية باريس استبدالها ببشر.
بعد ذلك انتشرت «حدائق الحيوانات البشرية» في عموم القارة الأوروبية، ثم انتقلت إلى أميركا، وكان يوضع فيها رجال ونساء وأطفال من إفريقيا، ومن شرق آسيا، والفلبين، وغينيا الجديدة، وأميركا الجنوبية، والهند، وجزر المحيط الهادي.. تُجمع العائلات والأفراد في بيئات طبيعية تحاكي بيئتهم الأصلية محاطة بالقضبان الحديدية، فيها أكواخ من القش، أو كهوف حجرية، أو برك مياه تشبه المستنقعات، وسط غابات شجرية، بملابسهم التقليدية، أو دون ملابس، ويطلب منهم تقديم عروض فكاهية لتسلية الجمهور.. كما كانت تلك الحدائق (وخاصة عروض السيرك) تضم أقزاما، أو طوال القامة، أو بدناء جداً، وأشخاصاً ذوي إعاقة، أو ممن ولدوا بتشوهات خَلقية بهدف إمتاع الجمهور!
وأحياناً كان يتم دمج عروض القردة والهنود الحمر أو الأفارقة في نفس القفص، في مشهد يظهر أبشع وأحط أنواع العنصرية التي كانت شائعة آنذاك.
كانت تلك الحدائق تستقبل 40 ألف زائر يومياً، وتشير تقارير متخصصة إلى أنه بين عامي 1870 و1939، زارها أكثر من مليار ونصف المليار شخص.
وتلك «الحدائق البشرية»، أو ما كان بعضهم يسميها «حدائق التكيف» لعبت دوراً خطيراً في الترويج لفكرة تفوق العرق الأبيض، وتبرير العنصرية، ما سهّل على القادة السياسيين والحزبيين استقطاب الملايين من شعوبهم وكسب تأييدهم لأفكارهم العنصرية والتوسعية، وسهّل على الجنرالات والجنود ارتكاب أفظع المذابح بحق الشعوب المحتلة.
هذا كله جزء من الماضي البشع لحقبة الاستعمار، فإضافة إلى تلك الممارسات الإجرامية، سنجد في التاريخ الاستعماري المذابح الجماعية، وحملات التطهير العرقي، وتجارة العبيد، واحتلال البلدان، ونهب خيرات ومقدرات الشعوب، واستعبادهم، وقطع أطرافهم، وتجويعهم، وتمزيق بلدانهم سياسيا، والتحريض على الحروب الأهلية، وإثارة النزعات القبلية والطائفية.
صحيح أن الاستعمار المباشر انتهى (بقيت إسرائيل)، وهذا الإرث الكريه والمخزي يُثقل على كاهل الأجيال الجديدة، التي باتت تخجل منه، وتتبرأ من أولئك المجرمين، وقد ظهرت حركات اجتماعية وسياسية عديدة تدعو للاعتذار عن ذلك الماضي المشين، كما ظهر الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية التي تفضح ذلك الجزء المظلم من التاريخ، وقبل أشهر قليلة خرجت حركات احتجاج شعبية غاضبة امتدت في معظم المدن الأوروبية والأميركية تندد بالعنصرية، وقد ألقت في الزبالة تماثيل ورموز تلك الحقبة، في أعقاب مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على خلفية عنصرية.
ومع ذلك، تداعيات الاستعمار ما زالت حاضرة، وممارساته تظهر بأشكال جديدة.. وهذا ليس على مستوى الدول وحسب؛ بل نراه في ممارسات شرائح اجتماعية ما زالت تنظر لنفسها بوصفها النخبة المختارة، وأنها فوق البشر.
فمثلاً فجّرت جزر أندامان الهندية مفاجأة عام 2012، حين كشف النقاب عن وجود نوع من «السفاري البشرية»، حيث يدفع مئات السياح مقابلًا ماديًا للذهاب إلى القبائل المنعزلة التي تقطن الجزيرة؛ وذلك من أجل مشاهدة ما يعتبرونه «بشراً بدائيين».. وأشارت تقارير شرطية إلى أن أحد سكان قبيلة «جاراوا» فقد ذراعه نتيجة لتعامل السائحين معه بعنصرية؛ إذ القَوْا الطعام عليه من سيارة متحركة بسرعة عالية، وقد أصدرت المحكمة الهندية أمرًا قضائيًا بغلق الطريق المؤدي إلى الجزيرة، إلا أن الطريق ظل مفتوحًا أمام السياح.
وما زال الكثير منا حين يشاهد أفلاماً عن القبائل المعزولة في حوض الأمازون، أو في أدغال إفريقيا، أو إندونيسيا، أو غينيا الجديدة، وغيرها من المناطق النائية، ويرى ممارساتهم وملابسهم، وتقاليدهم البدائية، فيصدق أن هؤلاء ليسوا بشراً، وأنهم في مرتبة أدنى، وأنهم متوحشون.. علماً أن ما جناه هؤلاء ليس سوى تمسكهم بأنماط حياتهم التي ارتضوها لأنفسهم، واعتزازهم بتراث أسلافهم.. وربما هم الوحيدون الذين فهموا الحياة بأبسط وأجمل معانيها.. لكن الإنسان «المتحضر» لم يتركهم في حالهم، وأصر على إقلاق راحتهم.