تفجيرات باريس: ليست باسمي

1650664260
حجم الخط

ما حدث في باريس من تفجيرات يشكل انعطافة جديدة في علاقة أوروبا مع العالم العربي والإسلامي، ويعيد التذكير بتفجيرات نيويورك ولندن ومدريد، وما تلاها من إعادة هيكلة للعلاقات الدولية تلاءمت بصورة او بأخرى مع تصورات المحافظين الجدد التي رأت ضرورة صناعة عدو جديد بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي وزوال التهديد الشيوعي. والذي دفع ثمن كل هذه التغيرات كان العرب والقضايا العربية. ولم تمثل هذه التفجيرات بأي حال المصالح العربية ولا مصالح العالم الثالث، بقدر ما كانت جزءاً من اختلال عمليات التحول في نسيج العلاقات الدولية وظهور ما يعرف بالمنظمات العابرة للدولة الوطنية ذات النفوذ الذي قد يفوق قوة ونفوذ بعض الدول الآيلة للسقوط وفق تمظهرات وتصنيفات الدول في الحقبة الجديدة. واجتهدت معامل الفكر، في تفسير ما يحدث وفي تبويب تطور الأحداث وصياغة المفاهيم الجديدة التي تؤطر التصرفات اللاحقة ضمن التصرف المنهجي للرد على تلك الأعمال. وفي كل ذلك أيضاً تم إعادة التأكيد على الصورة النمطية التي تجعل الإسلام دين الشرق المتخلف، والعرب مصدر الإرهاب والقتل منذ فجر التاريخ، وتم إعادة انتاج ماكينة الاستشراق بكلمات وصور وعبارات جديدة، تخدم فقط في مضمونها الحملات الاستعمارية الجديدة التي ستنطلق في أفغانستان والعراق وتسعى إلى تحطيم بنية الدولة العربية في سورية وليبيا واليمن وغير ذلك. لكن يظل السؤال ليس حول ماذا يفكر الغرب، إذ أن السياسة لعبة المصالح تجعل الجميع يفكر في مصالحه، بل ما الذي يقصد إليه هؤلاء إن كانوا فعلاً يتصرفون من عقولهم، حين يقومون بمثل هذه التفجيرات. واهم من يظن أن مثل هذه العمليات الإرهابية يمكن لها أن تخدم القضايا العربية قيد أنملة، وواهم من يعتقد أنه بفعلته تلك يمكن له أن يسدى الإسلام أي منفعة. بل هو وهم يساهمون في تعميق الصورة النمطية السلبية عن العرب والإسلام، ويعززون مقولات المتطرفين من غلاة التمييز ضد المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة ويطالبون بطردهم من البلاد التي لجأوا لها بحثاً عن العدل ولقمة العيش بعد ان ضاقت بهم بلدانهم. وواهم من يعتقد ان فعلته النكراء تلك ستساهم بأي حال في جلب المنقعة وابعاد الضرر، بل هي ستعمل على تعميق الشرخ الذي لم يقم بحفره إلا الغلاة والمتطرفون وأصحاب الرؤية الواحدة والاحادية في الأديان خاصة. أما إن كان يعتقد أنه بذلك يعمل على لفت انتباه المجتمع الغربي للقضايا العربية، فهو لا يفعل اكثر من رمي تلك القضايا في غياهب الجب، لا يلتفت لها أحد، ولا يتعاطف معها احد. فالقضايا العربية بعدالتها وباقتراب العرب في مجالات العلوم والآداب من مركز الحضارة ومساهمتها في دفعها، يساهمون في القاء الضوء عليها. شاعر ناجح وروائي ملهم وفنان موهوب يستطيعون ان يقولوا إن الامة التي انجبت قافلة مذهلة من العلماء في القرون الوسطى، ومن القادة العسكرين والفنانين والشعراء، الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي يمكن لطفل في الصف الرابع الابتدائي في أي مدرسة من مدارس اوطانها الشاسعة أن يقرأ قصيدة عمرها ألفي عام بنفس الكلمات ونفس خط الكتابة، هي امة تستحق الوقوف مع قضاياها. اما من يفجر مسرحاً كما فعل التتار، ويقتل أبرياء كما تفعل النازية والفاشية والصهيونية وكل أشكال الاستعمار وقوى الشر، فلا يمكن له أن ينتمى لها، ولا يمكن ان يتحدث باسمها، ولا أن يكون ممثلها في محفل الحضارة، ولا يتوقع منه ان يساهم بسنتمتر واحد في دفع عجلة التقدم والرقى للأمام. لقد خجل دانتي في كوميدياه الإلهية من بهاء تلك القافلة العظيمة من العلماء والفنانين فوضعهم (صلاح الدين وابن سينا وابن رشد) في الدرك الاخف من الجحيم مثل فيرجل وهوميروس وكل عظماء الحضارة الغربية الذين لم ينعموا ببركة المسيح لأنهم لم يعيشوا زمنه. هذه القافلة وحدها هي من يمثل إرث هذه الحضارة. ووحده من يريد أن يعيد لها البهاء والنضارة عبر المزيد من الإبداع والتقدم والرقي يكمل الطريق ويعيدها إلى سيرتها المفقودة. لم يسبق لأمة ان عادت للوراء من اجل التقدم للامام. وإن إعمال العقل وتثوير البحث عن أفضل السبل ليكشف أن التمسك بالتقاليد وبسيرة السلف الصالح واستلهام حياتهم وتجاربهم لا يعني ان يعيش المجتمع في قرونهم الماضية على بهائها. لقد كانت بهية نضرة لأنها كانت تنتمي إلى زمنها ولم تكن تعيش في زمن آخر. إن بعث الدين يكمن في بعث قيمه واتباع تعاليمه، لا تفجير الناس وقتلهم، وتشريدهم. أما تلك الأمة التي تريد أن تعيش في المستقبل، بالطبع مستلهمة بهاء الماضي ونوره، فعليها أن تعيش في المستقبل بكل تفاصيله، ان تنتمي إلى عصرها، إلى المخترعات والإبداعات المعاصرة، لا ان تترك امرها لحفنة ممن يهوون ان يسيئوا تمثيلها. او على الأقل مجموعة ممن يصرون على سرقة تمثيلها. وسرقة منجزها الحضاري وتشويهه، واختصار الحضارة التي كان مليكها يخاطب الغيمة ان تسير أينما شاءت لأن خراجها سيأتيه أين أمطرت، في مجموعة من العادات والممارسات والألبسة ونمط الحياة الذي لا ينتمي بأي حال لروحها. ليس في الأمر التباس في فهم الماضي ولا مغالطة في التعامل مع المستقبل، بل إصرار ممنهج على إلحاق الأذى بهذه الامة. يجب أن نكون واضحين أن هؤلاء لا يتحدثون باسمنا، ولا يمثلوننا، ولا يعبرون عنا، وأن ما يقومون به لا علاقة له بديننا وهويتنا، وثقافتنا. كما يجب أن نكون واضحين، بان ما يقومون به يسيء لتاريخنا وحضارتنا العريقة، ويعمل فأس الهدم والدماء في صرحها العظيم الذي لا ينتقص منه نكران ولا إجحاف، بل ينتقص منه أن يقوم مثل هؤلاء بتمثيله. باريس بلد فولتير وبروست وسارتر و أندريه جيد و شاغال وبول فيرين ومئات ممن اتحفوا البشرية بالعلم والإبداع. وباريس أيضاً، لنتذكر، الأكثر تأييداً للقضية الفلسطينية (رغم انه لا يرقى للدفاع عن مصالحنا) من بين الدول الغربية.