تشهد العلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية حالة من التحدي والمواجهة الصريحة، قبل أسابيع قليلة فقط من الانتخابات التشريعية الفلسطينية المزمع عقدها الشهر القادم. ويبدو أن إسرائيل تريد التأكيد على موقفها الذي تكشف صراحة في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بعد نشر تفاصيل صفقة القرن، والتي انعكست في: لا للقدس الشرقية، ولا لوقف الاستيطان، ولا لحل الدولتين. وعكست صفقة القرن التي طرحتها إدارة ترامب بتوجيهات من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الواقع الذي تعمل إسرائيل على خلقه على الأرض وفرضه بالقوة، خصوصاً فيما يتعلق بقضيتي القدس والاستيطان في الضفة الغربية، القضيتين اللتين تقوضان تلقائياً حل الدولتين، واللتان عملت إسرائيل على مدار حوالي ثلاثة عقود، من عمر اتفاق أوسلو على فرض معطيات جديدة في اطاريهما.
لم تغير إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن من المعطيات الجديدة التي وضعها ترامب، خصوصاً فيما يخص قضية القدس، والمتعلقة بالاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأميركية اليها. إن ذلك يفسر تشدد إسرائيل بشأن منع الانتخابات الفلسطينية في المدينة، والذي انعكس باجراءاتها التصعيدية فيها في الأيام الأخيرة. ومن المستبعد أن تتراجع إسرائيل عن ذلك الموقف، بل على العكس ستشهد الأيام القادمة حرباً إسرائيلية شعواء لاستكمال مخططاتها عموماً في القدس والضفة الغربية، والتي يمكن قراءتها بوضوح في صفقة القرن، وبدأ الفلسطينيون يشعرون بلظى ضراوتها بعد صعود الإدارة الاميركية الجديدة.
تفيد المعطيات على الأرض بأن هدف إسرائيل بالإعلان عن حدود «القدس الكبرى» بات قريباً جداً. وكانت سلطات الاحتلال صادقت بعد انتخابات الكنيست الأخيرة على خطة لتوسيع البناء ما بين القدس وبيت لحم، كما أعلن نتنياهو مؤخراً عن مخطط لبناء وحدة استيطانية جديدة شرقي المدينة، في اطار المشروع الاستيطاني المعروف بـE1 . ومن المعروف أن التواصل الاستيطاني الذي تستكمله سلطات الاحتلال حول القدس من جهاتها الأربع، سيفصل جنوب المدينة تماماً عن بيت لحم وجميع مدن جنوب الضفة الغربية، كما سيفصل الجهة الشرقية للمدينة عن مدينة رام الله والضفة الغربية عموماً، وسيربط مستوطنات شمال شرقي القدس مع منطقة الغور ومع الجهة الغربية للمدينة، لتسهيل التواصل مع أراضي ١٩٤٨. وتسعى إسرائيل في اطار ذلك المخطط بإبقاء ١٠ بالمائة فقط من مساحة القدس الموحدة بيد الفلسطينيين، الذين سيشكلون ٢٠ بالمائة فقط من عدد سكانها الكلي.
رغم أنها لم تعلنها صراحة، ترفض إسرائيل اجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس، مهددة بذلك استكمال العملية الانتخابية الفلسطينية برمتها. وليس من الصعب قراءة الرسالة التي ترسلها إسرائيل عبر سياسة التصعيد التي تتبناها هذه الأيام في القدس، والتي لم توجهها فقط ضد المرشحين للانتخابات التشريعية، التي ظهرت أسماؤهم في القوائم الانتخابية، بل توجهها ضد المقدسيين عموماً في إجراءات استثنائية وقحة تمثلت بالتهديد بطرد مئات المقدسيين من بيوتهم في حي الشيخ جراح. ورغم أن سياسة سلطات الاحتلال في مصادرة الأراضي وهدم البيوت والتضييق على المقدسيين ليست بجديدة، الا أنها كانت عموماً تلجأ الى التدرج والعمل المرحلي لقمع الوجود العربي في المدينة المقدسة، وليس بالتهديد والقمع الجماعي. ورغم علمها بأن الشرارة الأولى ستنفجر من المسجد الأقصى، لم تترد إسرائيل ومنذ حلول شهر رمضان في استفزاز الفلسطينيين باجراءات استثنائية تقوض ممارساتهم لطقوسهم الدينية في الشهر الفضيل.
لم ترفض إسرائيل من قبل وخلال دورتين انتخابيين اجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس، فقد سمحت للمقدسيين بالانتخابات عامي ١٩٩٤ و٢٠٠٦، في ظل ترتيبات خاصة. وكانت قد سمحت سلطات الاحتلال خلال تجربتي الانتخابات الماضيتين لسكان القدس بالانتخابات في مكاتب البريد، وكأنهم يعيشون خارج حدود وطنهم، أو بالانتخاب في مراكز خارج الحدود البلدية لمدينهم، الأمر الذي عكس النية المبيتة للاحتلال تجاه مستقبل المدينة المقدسة وسكانها. وتنص اتفاقية أوسلو وملحقاتها على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، وتشير في نص المادتين الثالثة والرابعة إلى أن أعضاء المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية «سيتم انتخابهم بشكل مباشر وفي نفس الوقت من قبل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة». إن إصرار إسرائيل على عدم اجراء الانتخابات في القدس هذه المرة يؤكد تمسكها بما حققته من اعتراف أميركي في عهد ترامب باحقيتها منفردة بالمدينة المقدسة، والذي لم تتراجع عنه الإدارة الاميركية الجديدة.
عملت إسرائيل منذ احتلالها عام ١٩٦٧ على تهويد مدينة القدس ونفي هويتها العربية وتغيير واقعها وملامحها بشكل متدرج. بدأ ذلك باحتلالها وضمها بعد ذلك في نفس العام، ثم بتوسيع حدودها البلدية تدريجياً. بدأت عملية توسيع الحدود البلدية للمدينة المقدسة في مرحلة متقدمة بعد احتلالها، وذلك بضم القرى المحيطة بها والمحيطة بمدينتي بيت جالا وبيت لحم أيضاً، ثم في مرحلة لاحقة استكملت بضم المستوطنات الاسرائيلية التي شيدتها سلطات الاحتلال محاصرة المدينة من جميع الجهات، بهدف فصلها عن امتدادها العربي. قام الاحتلال بعد ذلك بمحاصرة القدس بسور عملاق عازل ليترجم عملية فصل المدينة العربية التاريخية عملياً عن امتدادها الطبيعي مع محيطها الفلسطيني.
منذ احتلالها، يعيش سكان مدينة القدس في مواجهة دائمة مع سلطات الاحتلال التي عملت على مصادرة وتسريب أراضيهم، وتقليص عددهم وتشتيتهم. فما بين فرض قانون الغائب وتزوير سندات ملكية الأراضي والاحتيال على الفلسطينيين، سلبت إسرائيل مئات آلاف الدونمات منهم. وفي اطار فرض العديد من القوانين التي تتفنن في سحب هويات المقدسين، فقد آلاف المقدسيين إقامتهم في مدينتهم. ناهيك عن التضييق المستمر الذي يشهده سكان المدينة من ممارسات مستمرة تطال أرزاقهم وأمنهم وحياتهم، بفرض الضرائب الباهظة، والاعتقال والاعتداء الذي وصل حد قتل الأبرياء.
موقف إسرائيل وسياستها تجاه الاستيطان في الضفة الغربية لا يختلف عن موقفها وسياساتها تجاه القدس، والذي بات واضحاً من خلال سياساتها المستمرة في مصادرة أراضي الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات وزيادة عدد المستوطنين وعكستها بوضوح صفقة القرن. كما أن موقف الإدارة الأميركية الجديدة تجاه سياسات إسرائيل في الضفة الغربية لن يخرج عن دورها الذي لعبته طوال السنوات الماضية في إدارة الصراع، في ظل استنزاف لحقوق الفلسطينيين. وتضع تصريحات الإدارة الاميركية الجديدة سياسات إسرائيل التي قلبت معادلة الصراع مع الفلسطينيين في كفة واحدة مع دفع مرتبات الأسرى الفلسطينيين، في استخفاف بأدنى معايير المنطق.
لم يعد أمام الفلسطينيين اليوم خيار، فإما الوحدة والتركيز على مواجهة مخططات الاحتلال في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وإما مراقبة مسلسل هدر واستنزاف الحقوق الفلسطينية.
* د. سنية الحسيني – كاتبة وأكاديمية فلسطينية.