في محاولة مني للرد على سؤال ما العمل، دعوت في مقالي السابق جميع الذين يشعرون بالخطر مثلي إلى اطلاق مبادرة لاقامة جبهة عربية يهودية تحت اسم: مواطنون ضد الفاشية .
لا أعرف اذا كانت الفكرة ستلقى تجاوبًا فعليًا؛ أو أنها ستجد من يحوّلها إلى اطار عمل نضالي حقيقي ليقف في وجه قطعان اليمين المنفلت كما نراهم في أيامنا هذه، فحتى كتابته لم ألحظ، لأسفي، أي تفاعل مع هذه الفكرة.
لم ينجح بنيامين نتنياهو، لغاية الآن، بتشكيل حكومته؛ لكنه ما زال يحاول ويرواغ مع جميع الأحزاب التي يعتقد انها صالحة للشراكة معه، ( أو عندها، بلغة المكان، شهادة الكوشير )، وبضمنها قائمة الحركة الاسلامية، التي أكد رئيسها، الدكتور منصور عباس، في بيان رسمي نقلته المواقع يوم الاربعاء الفائت، على أنه تواصل هاتفيًا مع بنيامين نتنياهو وتحدثا حول القضايا السياسية الراهنة التي كان من بينها امكانية تشكيل الحكومة، والقضايا الحارقة للمجتمع العربي، وقضايا سياسية أخرى .. كما جاء في الأخبار .
لا نعرف ماذا تناول الاثنان في محادثتهما، وعن أي القضايا الحارقة قد تحدثا ؛ وأملي، على الأقل، أن يكون النائب عباس قد لفت انتباه رئيس الحكومة نتنياهو لمضامين الدعوات التحريضية التي تطلقها، في هذه الأيام، مجموعات ارهابية يهودية وتدعو من خلالها أنصارها ومؤيديها للتجند والتجهز والانقضاض على المواطنين العرب في القدس الشرقية وفي يافا، وذلك في عمليات ثأر لما وصفوه "الشرف اليهودي" ، ومن أجل تكسير رؤوس العرب وتلقينهم دروسًا لن ينسوها.
لم تتوقف، خلال السنوت الماضية، معظم هذه المنظمات الارهابية، مثل "تدفيع الثمن"و "لاهافا" و"شباب/ زعران التلال" عن حملاتها واعتداءاتها على التجمعات السكانية العربية وعلى الممتلكات، سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة او داخل اسرائيل؛ لكن ما نشهده الآن يشكّل تصعيدًا خطيرًا وجديدًا من حيث دموية الخطاب ووضوح أهدافه المخططة، وبالاستجابات الواسعة له، كما رصدتها الصحافة العبرية ونقلت تفاصيلها المقززة على الملأ.
انها الترجمات العملية المرعبة للوضع المتولد والناتج عن تغيير المناخات السياسية في الدولة كما كنا قد توقعنا حصولها ؛ فهذه المنظمات وغيرها لن تنتظر تشكيل حكومة قادمة، ولا كيف سيكون شكلها، لأنها عبارة عن فرق الدم الضاربة، مثل شبيهاتها في تاريخ أوروبا الاسود، وابنة غريزتها المفترسة التي تشم رائحة فرائسها فلا تهمل ولا تمهل.
تنتظرنا، نحن المواطنين العرب، أوقات عصيبة؛ والمشكلة ان معظمنا يشعر بتداعياتها القريبة ولا يعرف كيف سيكون الخلاص، ولا ما هي سبل مواجهتها المثلى؛ فالأزمة السياسية التي يواجهها المجتمع اليهودي هي عندنا أخطر وأعوص، وقد عرّت بواطن ضعفنا، وكشفت مخاطر تخبطنا بثنائية الانتماء الوطني والمواطني.
لقد أجاد الكثيرون من الأكاديميين والمحللين العرب بتوصيف حالتنا / معضلتنا كفلسطينيين بالانتماء وكمواطنيين في اسرائيل؛ لكن معظمهم لم يتعرضوا إلى نقطة الحسم، ولم يطرحوا حلولًا واضحة.
فلقد لفت انتباهي مؤخرًا حوار مطول أجرته الدكتوره رلى هردل، المحاضرة في العلوم السياسية، مع موقع عرب 48 حول نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة حيث أكّدت في أحد ردودها هناك على أن "سؤال المشاركة السياسية في المؤسسة يطرح نفسه علينا ويجب ايجاد الاجابة عليه. والمدخل هو الحسم بين كوننا فلسطينيين نريد تفكيك المشروع الصهيوني وبين المواطنة الاسرائيلية والانخراط في المشاركة في المؤسسة الاسرائيلية ". وعندما حاول محاورها، الصحفي سليمان ابو رشيد، أن يستوضح فيما اذا كانت تموضع خياراتها بين مواطنة جزئية واندماج مشوه أو انتظار الفرج ، أجابته: "أقصد ان شعار دولة المواطنين لم يعد يشكل عائقًا، وان مسألة التأثير والمشاركة السياسية في طريقها الى التحول ربما الى صيرورة "عربية فلسطينية" واسرائيلية أيضا، وستطرح علينا هذه الاسئلة بشكل ملحّ ويجب ان نزود أنفسنا بأجوبة مقنعة لنا ولجماهيرنا مع الاخذ بعين الاعتبار ان الرفض الاسرائيلي ليس حالة جامدة وربما يكون خاضعًا للكثير من الاعتبارات التكتيكية وليس الاستراتيجية فقط". قالت ، أفصحت وزادت من حيرة القراء.
قد يحتاج بعضنا وقتًا لحسم خياراتهم الكبرى، ولكن هذا لا يعفيهم من ضرورة التفتيش الفوري عن وسائل المواجهة من أجل البقاء أحياء بين فكي تلك المعادلة؛ فأنا لن أنتظر على "رصيف الفرج" ولا إلى أن ننجح في تفكيك المشروع الصهيوني، الذي لا أعرف من وكيف سيفككه، بل سأسعى، كمواطن وكصاحب حق إلى ايجاد سبل الانخراط في المشاركة السياسية والتأثير فيها وعليها؛ وسأدعو بالطبع غيري لنفعل معًا، كيلا يبقى هذا الانخراط فرديًا لأنه يجب أن يكون جماعيًا كما يليق بمكانة أقلية تقاتل من أجل بقائها وحقوقها ، الفردية والجمعية، ومستقبلها.
وفي هذا المسعى سوف اقترح، علاوة على فكرة اقامة الجبهة ضد الفاشية، بعض الأفكار التي أهدف من ورائها الى بناء أطر جديدة قد تؤدي إلى تحديث أساليب نضالنا وعملنا وكيفية اشتباكنا، أو انخراطنا، مع الدولة وسياساتها تجاهنا كمواطنين عرب مهددين.
أولًا : أقامة منتدى القانونين العرب؛ سوف يعمل هذا المنتدى على التشبيك بين آلاف الأكاديميين، خريجي كليات الحقوق، الذين يعملون كمحامين أو كمحاضرين في جامعات البلاد وبعضهم قد وصل إلى درجة العمادة، أو موظفين في مناصب ادارية رفيعة في أجهزة الدولة أو كبرى الشركات، أو اصحاب مكاتب محاماه، أو شركاء في مكاتب محاماة كبيرة، او قضاة متقاعدين، وذلك في محاولة لايجاد اطار أو وسيلة تجمعهم بهدف الاستفادة من خبراتهم في المجالات الحقوقية وتسخير طاقاتهم المهنية والذهنية وتحويلها إلى عوامل مؤثرة في تحديد معالم أزماتنا وتشخيصها من وجهة نظر قانونية؛ ومن ثم وضع برامج ومقترحات لتفكيكها ولمواجهتها بمنهجية وبنجاعة.
ثانيًا: الدعوة ألى تأسيس رابطة العلمانيين العرب، التي ستعمل على نشر مناخات من الثقافة الانسانية والديمقراطية الحقة داخل مجتمعاتنا، وعلى تعزيز ثقافة الحرية واحترام حقوق الغير المختلف، والانتماء الى هويات جامعة وقادرة على تحصين مجتمعاتنا وتمكينها من مواجهة جميع المخاطر المتفاقمة بيننا.
ثالثًا : التأكيد مجددًا على مقترحي القديم لاقامة مجلس طواريء أعلى؛ على ألا تكون عضويته محصورة في نشطاء الأحزاب والحركات السياسية والدينية القائمة، بل تتعداهم ليضم المجلس عددًا من الشخصيات صاحبة المكانة والمهارة والتجرية والأهلية لوضع تصوراتهم ازاء أزمتنا الناجمة كما وصفتها على سبيل المثال الدكتورة هردل، وارفاقها بحلول متخيّلة.
رابعًا: أدعو قائمة النائب منصور عباس الى تبني فكرة ترشيح مواطن عربي لرئاسة الدولة، وذلك خلفًا للرئيس الحالي رؤبين ريفلن والى تجنيد علاقاته ووزنه، كبيضة قبان، من اجل انجاح هذا المقترح. فصلاحيات رئيس الدولة هامة لكنها محدودة جدًا، ولا يعد منصبه منصبا سياسيا بل فوق الفئوية والسياسة ومن المفترض أن يمثل جميع مواطنين الدولة.
واقترح عليهم ترشيح قاضي المحكمة العليا المتقاعد سليم جبران لهذا المنصب، فهو كقاض متقاعد من أعلى هيئة قانونية رسمية في الدولة، يعدّ صاحب شرعية مواطنية يجب أن تكون مقبولة على نتنياهو ومعسكره أو على لابيد ومعسكره.
لقد نال القاضي جبران كأول غير يهودي على الاطلاق، قبل مدة وجيزة جائزة "المنظمة الامريكية للمحامين وللحقوقيين اليهود" وهي احدى المنظمات الكبرى والمؤثرة، ليس فقط على مستوى أمريكا بل أبعد منها بكثير. وقد قدّم أمام اعضاء هذه المنظمة خطاب المواطنة الكاملة حيث لفت فيه انظارهم الينا كابناء أقلية عانت وتعاني من عنصرية الدولة التي سوف تضاعفها تبعات قانون القومية السيء والخاطيء والذي سيشكل خطرًا على بقاء الديمقراطية في اسرائيل .
قد يكون ترشيح القاضي جبران صعبًا على الحركة الاسلامية لكونه لا ينتمي، على طريقتهم، الى "القوى المحافظة" في مجتمعنا؛ فعندها من الممكن أن يتبنوا ترشيح غيره من الشخصيات المحافظة ذات المقام والمكانة والمؤهلات والسمعة لهذا المنصب، فالعبرة بقبول مبدأ الترشيح لهذا المنصب وبكونه مقترحًا متساوقًا مع خطاب الانجازات المواطنية الذي ينادي به النائب عباس وحركته.
على جميع الاحوال قد لا توافق القائمة المشتركة على هذا المقترح، لكنني اعتقد ان "حركة ميرتس" تستطيع تبنيه إلى جانب، او بدون، موافقة الحركة الاسلامية عليه.
وأخيرًا، أعرف أن جميع هذه المقترحات هي مجرد أفكار تستدعي المناقشة والدراسة والتطوير عساها تنضج وتصبح ناجزة كوسائل عمل مستحدثة وقادرة على تحسين أوضاعنا أو جاهزيتنا لمواجهة من نراهم يكشرون عن انيابهم؛ فهم فرق السماء الغاضبة، صناع مناخات الخوف، النافخون بأبواق الدمار والقابضون على مناجل حصاد الجماجم التي سيشيّد على أكوامها، هكذا يؤمنون، شعب اسرائيل مملكته اليهودية الجديدة.