«مغيبون… الحرب السورية غير المرئية»: يروي قصص الاعتقال والإختفاء القسري في البلاد

15y95
حجم الخط

عرضت قناة «آرته» الفرنسية الألمانية الاسبوع الماضي فيلماً وثائقياً بعنوان: «مغيبون.. الحرب السورية غير المرئية»… بدأ الفيلم حين بدأت الثورة، متظاهرون سلميون ينشدون أغاني الثورة، ويرقصون حاملين اللافتات المطالبة بالحرية والكرامة. 
أعوامٌ خمسة مرّت منذ تلك اللحظة التي قرّر فيها السوريون إسقاط الاستبداد، غيرت الكثير من حولها وتغير فيها الكثير، استشهد الكثير من هؤلاء المتظاهرين وتشرد الملايين، بعد أن استخدم النظام أعتى الأسلحة وارتكب أفظع الجرائم والمجازر، من دون أن يتمكن من إخماد ثورة اشتعلت في نفوس مازالت تفاوض المستحيل من أجل حريتها.
يتفرد الفيلم المذكور بعرض واحدٍ من أخطر تلك الأسلحة وأكثرها فتكاً، سلاح الاعتقال والاختفاء القسري في غياهب السجون السوريا، حيث الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. ففيما يحاول النظام تغييب المعتقلين وحجب صوتهم، وإخفاء جثثهم بعد التعذيب، يسعى هذا الفيلم لكشف المخفي والمحظور، وإظهار الحقيقة كاملة أمام المشاهد الأوروبي، الذي سقط في فخ الخوف من «داعش»، فأغمض العين عن جرائم هذا النظام، وهنا تكمن أهميته.
الكاميرا تلتقط الشهادات والأجوبة، فيما يبقى المحاور وأسئلته في الظل.. شهاداتٌ تتنوع بين معتقلين سابقين، كما في حالة رويدا كنعان وطارق معترماوي، أو منشقين عن نظام الأسد، كما في حالة ضابط الأمن السياسي منير الحريري والقاضي في محكمة النقض حسين حمادة، أو حقوقيين ومدافعين عن حقوق الإنسان كالمحامي أكرم البني وعماد حوري.

المعتقلة رويدا:

اعتقلت على حاجز الغوطة بتهمة حيازة بطاقة صحافية، ففي «سوريا الأسد» كل إعلام لا يخدم سياسة الكذب والتضليل الرسمية هو إعلام مغرض والعاملون فيه مشبوهون. هي ثلاثة أشهر فقط، أمضتها رويدا في أقبية المخابرات الجوية، ولكنها كانت أسوأ من الجحيم، كما تقول. تخبرنا عن مهاجع مكتظة بالنساء من كل الأعمار، رضعا… أطفالا… شابات ومسنات. أطفال سجناء مع امهاتهم، حيث لا مكان ليتحركوا أو يلعبوا، ولا طعام لهم إلا البرغل الناشف، وحيث يكون النوم ورديات وبالتناوب كي يتسع البلاط البارد لكل تلك الأجساد المنهكة. أصوات التعذيب وروائح الدم المتقيح تملأ المكان، ابنٌ يُعذب أمام والده ووالدٌ يُعذب أمام ابنه وسلسلة من العذاب لا تنتهي.
تروي رويدا كيف أنها وفي طريقها إلى غرفة التحقيق، أحست أنها دعست على كتلة رخوة، لتكتشف بعدها أنه جسد سجين هوى تحت التعذيب من مكان تعليقه في السقف، وبقي هناك ينزف على الأرض مرمياً بين الحياة والموت. تقول إنها شعرت بالحزن والعجز، عندما تقاطعت نظراتهما، ولم تستطع سوى أن تهمس له بجملة اعتذار، «آسفة لأنني عبرت فوقك وآسفة لأنني مثلك لا أملك من أمري شيئاً». عندما تسمع رويدا أغنية «يا ظلام السجن خيم» تبتسم بمرارة، ففي السجن كانت تبحث عن الظلام، لأن أضواء المصابيح القوية كانت تعمل على مدار الليل والنهار، كوسيلةٍ إضافيةٍ للتعذيب والحرمان من النوم. لن أسامح ولن أغفر تقول رويدا، لا أرغب لهؤلاء القتلة إلا بمحاكماتٍ عادلة تعيد لضحاياهم بعضاً من حق وعدالة.

المعتقل طارق:

طارق ناشط من مدينة داريا المحاصرة، اعتقل في كمين للمخابرات الجوية في حرستا، أمضى خمسة أشهر في المعتقل، خرج بعدها كالشبح، زوجته التي كانت بانتظاره لم تتعرف عليه وهو يلوح لها، فقط عندما نطق اسمها عرفته، ولم تستطع أن تجيبه إلا بدموعها.. اليوم عندما يرى طارق صورته بعد الاعتقال، يقول إنها ليست صورة إنسان، بل صورة للخوف والرعب والظلم والجوع والموت. ويروي كيف أنهم في المهاجع كانوا مرصوصين كحبات الزينون المرصوصة في الجرار، وأنهم تحت التعذيب كانوا يتمنون الموت. ويضيف: كلّ ما كان السجان يرتكبه بحقنا، إنما كان لتجريدنا من إنسانيتنا وكرامتنا التي خرجنا نطالب بها، لقد حاولوا تحويلنا لا لحيوانات، بل لحشرات هائمة بلا أي قيمة، تكفي صفعة من السجان لتتهاوى ميتة على الأرض. أما أقسى مراحل الاعتقال فهي بالنسبة لطارق تلك الأيام التي أمضاها في المستشفى العسكري 601.. هناك يصبح السجن سريرا يربط به ثلاثة سجناء بعضهم ببعض بسلاسل ثقيلة. ومازال جسده يحتفظ بآثار لكمات سجين حموي كان مربوطاً معه مما أفقده صوابه ومات… ولم يكلف هذا إدارة السجن أكثر من استبدال المعتقل الميت بمعتقل آخر جديد، يربط مجدداً إلى جسد طارق في انتظار موتٍ جديد.

المنشقون عن النظام:

منير الحريري كان ضابطاً في فرع الأمن السياسي، وانشق في آواخر 2012، يروي الضابط السابق كيف جاءتهم الأوامر في البداية، اضربوا بيدٍ من حديد وبكل الوسائل المتاحة لوقف الثورة السلمية.. الوسائل المتاحة كما يقول منير الحريري هي وسائل التعذيب، التي تتنوع بين السياط والدولاب والكرسي الألماني والتعليق أو ما يسمى بـ«التشبيح» ثم الصعقات الكهربائية، وأخيراً وليس آخراً التجويع. وكعارف بحقيقة عمل الأجهزة الأمنية، يقرّ الحريري أن أقسى ما قد يعيشه الإنسان في «سوريا الأسد» هو تجربة الاعتقال، لأن الإنسان يموت هناك عشرات المرات في اليوم الواحد، ويصل حد تمني الموت حقيقة ليرتاح من عذابه. أما استراتيجية التعذيب، فهي حسب الحريري لا تهدف فقط إلى القتل، بل إلى استعراض التوحش والعنف، بمعنى اقتلوا بعضهم ليرتدع الباقون ويصمتوا. نعم «الصمت» كهدف، لأن الصمت كصمت القبور، يحيل الأحياء إلى جثثٍ متحركة. أما مصير جثث المعتقلين الذين فارقوا الحياة تحت التعذيب، فغالباً ما تترك بضعة أيام لتنتشر منها روائح التعفن بين السجناء، ثم يتم نقلها إلى مراكز تجميع الجثث كمستشفى 601 العسكري، وبعد ذلك عبر حاويات إلى المقابر الجماعية التي أصبحت تملأ الأرض السورية.
وفي النهاية يتساءل الحريري عن أي شعب يريد الرئيس «قاتل شعبه» أن يحكمه، بعد أن تحول أكثر من نصف الشعب السوري إلى شهداء ولاجئين. أما القاضي السابق في محكمة النقض حسين حمادة، فهو يرى أن القتل هو سلاح النظام للبقاء في السلطة ولو كلف الأمر قتل السوريين جميعاَ وتدمير سوريا… فشعارهم منذ البداية كان «الأسد أو نحرق البلد»، تلك هي سلطة الأسد، سلطة تخرب وتقتل لا سلطة تبني أو تحمي وطن. يقول حمادة بأن النظام هو المسؤول الأول عما آلت إليه الأحوال في البلد، فقد فتح أبواب جهنم على مصراعيها أمام الجماعات الظلامية والتدخلات الخارجية، وصارت سوريا ساحة لصراعات لا علاقة للسوريين بها. ويضيف بأن عنف النظام وشراسته تفوقان عنف «داعش» ووحشيته، الفرق أن النظام يمارس قتله في الخفاء، بينما داعش يستعرض قتله علانية.

سيزار:

الصور التي التقطها مصور استطاع الانشقاق عن المخابرات العسكرية وهربها خارج سوريا، هي لـ 6500 معتقل، جميعهم ماتوا تحت التعذيب في سجون النظام. تمرّ «صور سيزر» في الفيلم أمام أنظار نديم حوري من منظمة هيومن رايتس، فيقول إنّ الصور فظيعة، لكنّ الأفظع أنها التقطت في فترة محددة لا تتجاوز السنتين، وفي سجنين فقط من مدينة دمشق، ممّا يعني أنّ هناك أضعاف تلك الجثث في سوريا اليوم. ويعقب حوري قائلاً: المرؤوس التقط الصور للجثث وأعطاها أرقاماً ليثبت للرئيس أنّ التعذيب تمّ على أكمل وجه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: «أين ذهبت تلك الجثث، وماذا فعل النظام بها؟».المخيف حسب حوري أن الجرائم ضد الإنسانية كانت سابقاَ ترتكب في الخفاء، اليوم ومع التقدم التكنولوجي ووسائل الاتصال الحديثة، صارت الجرائم تحدث تحت سمع وبصر العالم بأجمعه، ولكن لا أحداً هنا يحرك ساكناَ.
في نهاية الفيلم يظهر المحامي أكرم البني وهو يلقي كلمة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، متهماً النظام بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وباستخدام أسلحةٍ محظورةَ دوليّاً، ومطالباَ المجتمع الدوليّ بتحمل مسؤولياته والتحرك لوقف آلة القتل الأسدية. وعندما يأتي دور ممثل النظام في الكلام، ينسحب البني خارج القاعة والمبنى. يقف بأسى وحيداً، ينفث دخان سيجارته في الهواء، صاماً أذنيه عن أكاذيب النظام الممنهجة، أكاذيب لا تقل خطورة عن قتله الممنهج.. ومديراً ظهره لعجز لأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وحيداً كما الشعب السوري في مواجهة الجميع، فالمعطيات جميعها تؤكد ألا أحد معنيٌّ حقاً بوقف سفك الدم السوري، ولا مصلحة لأحدٍ بقيام «سوريا حرّة» في منطقة الشرق الأوسط.
ربما كان المغيبون في الفيلم هم المغيبون في السجون السورية ولكنهم أيضاً السوريون الحالمون بالحرية… فكلّ السوريين الأحرار مشاريع اعتقال، ما دامت الحرية جريمة، ومادامت سوريا «السجن الكبير» تُحكم بقبضة السجّان الحديدية.

كاتبة سورية

آية الأتاسي