منذ عقد تقريبا، غيبت سياسة الدولة المحتلة الحضور الفلسطيني من المشهد السياسي، غيبت البحث عن حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في 4 انتخابات إسرائيلية، وغاب البحث عن حل للصراع في اتفاقات دولة الاحتلال مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وفي تفاهمات غير معلنة مع دول عربية أخرى. وتحصيل حاصل جرى تقديم حل ذلك الصراع المزمن من طرف واحد وعلى مقاس مصالح المستوطنين في المشروع المسمى «صفقة القرن». تحييد العامل الفلسطيني من جدول الاهتمامات الإسرائيلية الداخلية والخارجية، استمر برغم الإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني. التحييد كان جزءا من سياسة كسر إرادة الشعب الفلسطيني التي يجري اختبارها بين فترة وأخرى لمعرفة إذا ما كان الفلسطيني مستعدا للاستسلام والخنوع، ولا تختلف هذه السياسة عن استراتيجية الحرب التي تحدث عنها البروفيسور الأميركي ماكس مانوارنبيج والتي تتلخص، بسياسة «دعهم يتآكلون ببطء من خلال شل قدرة البلد المستهدف على تلبية الحاجات الأساسية، وتحويل الناس الى قطعان هائمة، وزعزعة الاستقرار عبر عناصر وقوى محلية، وصولا الى حالة المحو».
منذ أسبوع، مارس شبان وشابات القدس حق النقض على العربدة الإسرائيلية المنفلتة من كل حساب، وذلك عندما تصدروا المشهد في مواجهة المحتلين ومنظمة «لاهافا» الكهانية العنصرية. إرادة وشجاعة أفواج من الشبان والشابات في مدينة القدس ساهمت في تدحرج كرة النار الى مدن ومخيمات الضفة والقطاع فيما يشبه هبة جديدة قابلة للاتساع. هناك أكثر من سبب وسبب دفع الأمور الى الاحتدام. كإذلال المقدسين الناجم عن هدم منازلهم، واستشراء الاستيطان في أنحاء مختلفة من المدينة وضواحيها، واستباحة منظمة «لاهافا» الفاشية العنصرية لأحياء المدينة، والاعتداء الدائم على المسجد الأقصى وكنائس المدينة، والاعتقالات المستمرة للشبان والمواطنين لأسباب ودون أسباب، وقمع الحريات والأنشطة حول الانتخابات. ولمّا أدركت سلطات الاحتلال ان الأوضاع قد تخرج عن السيطرة، حاولت نزع فتيل الانفجار. ولجأت الى التهدئة بالتعاون مع وسطاء في الإقليم. الهدف هو إعادة الموضوع الفلسطيني الى الهامش وتغييبه مرة أخرى من الأجندات الداخلية والخارجية.
كما نرى، توجد مصلحة لإسرائيل كدولة مستعمرين في تغييب الحضور الفلسطيني كلما حدث نهوض او تمرد، عبر تقديم القليل من التنازلات الشكلية، مع بقاء صناعة الوقائع الاستعمارية على الأرض بما في ذلك ممارسة أشكال من التطهير العرقي في القدس والأغوار وما يعادل 60% من أراضي الضفة الغربية. مقابل ذلك، فإن مصلحة الشعب الفلسطيني تستدعي قلب قواعد اللعبة السياسية التي كرسها تحالف نتنياهو ترامب، هذا التغيير الضروري بدأه الشبان في القدس ولاحقا في أنحاء الضفة والقطاع. التغيير بالطبع ينسجم مع المصلحة الفلسطينية، التي لا تلبى إلا عبر حضور شعبي بهذا اللون من المقاومة الشعبية. مقاومة تعيد طرح الاحتلال الكولونيالي المزمن على طاولة البحث الشعبي، وتعمل على وقف مسار تفكيك وتخريب الواقع الفلسطيني وصولا الى تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
الاستمرار في الانتخابات الثلاثية (التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني) على خطا المنتفضين، يعزز الحضور الفلسطيني كحقوق مشروعة في الأجندات الإقليمية والدولية، وكقضية تحرر من الاحتلال وتقرير المصير، في مواجهة أجندة جلب المساعدات بثمن الصمت على الحقوق وإذابة القضية الفلسطينية في محيط فلسطين وفي أرجاء العالم. أما تأجيل الانتخابات فلا يعني غير عودة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الى الهامش، وإنعاش أجندة صفقة ترامب والترامبيين التي ما زالت سارية المفعول إسرائيليا وفي المنطقة. إن التراجع عن الانتخابات او تأجيلها قد يبرر بعودة الرباعية الدولية للعمل وباستئناف المفاوضات، او قد يبرر بأن نتيجة الانتخابات ستكون لمصلحة أصحاب الارتباطات الإقليمية والدولية ممن ينفقون الأموال لتثبيت مواقعهم على الأرض. الإجابة عن الافتراضين تقول إن النظام الدولي قبل وبعد ترامب وبمعزل عن لحظة التوحش التي جسدها ترامب، هذا النظام أبدى عجزا مدهشا في إلزام إسرائيل كدولة محتلة على قبول القرارات والمشاريع الدولية لحل الصراع، على إنهاء الاحتلال والسيطرة الأمنية على شعب بأكمله والتراجع عن الاستيطان ونهب موارد الشعب الفلسطيني. ومن الجدير ذكره هنا أن أحد أهم الأسباب في العجز الدولي هو تحييد الشعب الفلسطيني عن العملية السياسية المعزولة عن الناس وعن كل مساءلة ومحاسبة، وتحييد الشعب عن المقاومة المسلحة التي أصبحت من اختصاص جهاز سياسي بيروقراطي معزول عن الناس، ويخضع لأجندات أخرى. الاستمرار في إجراء الانتخابات يعني العودة الى مرجعية الشعب الى المشاركة الشعبية التي ستضع كل الأوراق السياسية على الطاولة وتفرزها لتستبعد الأوراق المشبوهة ولترسل أصحابها الى الجحور في وضعية بيات. في كل مرة يشارك فيها الشعب الفلسطيني في معركة البقاء وتقرير المصير تكون النتائج إيجابية.
لقد جاءت المبادرة الشعبية ردا على الإذلال الإسرائيلي من قبل الفئات العمرية المعافاة، من الجيل الذي أزال كاميرات التجسس في هبة القدس السابقة، وشارك في مقاومات فردية مستقلة، وانضم له جيل جديد ما دون العشرين الذي أضفى على الهبة حيوية وقوة معنوية فائقة الأهمية. في كل المرات السابقة تعرض الشبان والشابات الى قمع الاحتلال والى عمليات احتواء من جهات مختلفة حاولت استخدامهم وتاجرت بهم تحت مسمى دعم الشباب. ولا شك ان القمع والاحتواء قطع الطريق في كل مرة سابقة على تطوير وتنظيم المشاركة الشعبية للخلاص من الاحتلال وقيوده الثقيلة. في المرات السابقة وفي هذه المرة يتكرر الخطاب الخشبي الذي يرى في الهبة شكلا وحيدا هو التصادم مع الاحتلال. لماذا لا يتم وضع أهداف ملموسة تضع أساسا قويا للاستمرارية، فضلا عن فرض التراجع عن الإجراءات الإسرائيلية. وليكن الهدف الرئيس في الأيام والأسابيع القادمة ممارسة المقدسيين حقهم في الترشح والانتخاب والدعاية الانتخابية وحرية الحركة. ان الخوض في هذا الحق سيضع النقاط على الحروف لجهة فضح العداء الإسرائيلي للديمقراطية الفلسطينية، ولجهة معرفة رأي دول العالم الحر في الكبح الإسرائيلي للديمقراطية. ولجهة تحول الانتخابات الى معركة من اهم معارك إنهاء الاحتلال وتقرير المصير.
تنحبس الأنفاس مرة أخرى، خوفا من التراجع الرسمي عن الانتخابات، بذريعة عدم الموافقة الإسرائيلية على إجراء الانتخابات في القدس، أو بذريعة وجود ضغوط ونصائح من الأصدقاء والأشقاء تطالب بتأجيل الانتخابات. أيام قليلة حاسمة بكل المقاييس. سنكون على موعد مع القرار الفلسطيني.