مثل تقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش” الذي أصدرته أخيراً، وعنوانه “تجاوزوا الحد… السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد” قفزة مهمة في اتجاه فضح وتعرية جريمتي التمييز العنصري (الأبارتهايد) والاضطهاد، اللتين ترتكبهما إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وفي اتجاه مساءلتها ليس أمام محكمة الجنايات الدولية فحسب، بل أيضاً أمام المجتمع الدولي بأسره.
وجاء التقرير ليضيف وثائق جديدة إلى جانب التقرير الشهير الذي أعده فريق لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، ونشر في 2017، وتنكّرت له الأمم المتحدة، بعدما كشف طبيعة الأبارتهايد العنصري الذي يمارس ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وفي أراضي 1948، وضد المقيمين منهم قسراً خارج وطنهم، بالإضافة إلى التقرير الذي أصدرته منظمة حقوق الإنسان “بتسليم” الإسرائيلية، والذي اعترف بوجود نظام أبارتهايد كامل تستخدمه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
منذ أكثر من عشرين عاماً، نطرح في مختلف المحافل الدولية الإثباتات القاطعة، بالأرقام، والصور، ومقاطع الفيديو والحقائق، وجود نظام تمييز عنصري واضطهاد ضد الشعب الفلسطيني، في حين واصل العالم تلكؤه في الاعتراف بذلك، حتى طفح الكيل، ولم يعد من الممكن مواصلة التستر على الجرائم.
وقد سبق الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، الجميع في المجتمع الدولي، بعد لقاء جمعنا به في عام 2003، وشرحنا فيه معالم منظومة الأبارتهايد وجدار الفصل العنصري الذي أنشأته إسرائيل. وأذكر أنّه جادل طويلا، محاولاً نفي صفة الأبارتهايد عن إسرائيل، ولأنّه يحترم عقله، دخلت الحقائق إلى ذهنه تدريجياً، حتى وصل الأمر به إلى نشر كتاب سمّاه “السلام وليس الأبارتهايد” فقامت قيامة الحركة الصهيونية ضده، وما زال يتعرّض لاتهامات “العداء للسامية” غير أنّه فتح ثغرة في جدار الرواية الإسرائيلية، لم يستطع اللوبي الصهيوني إغلاقها.
خلاصة القول، أصبح وصفنا النظام العنصري الإسرائيلي بالأبارتهايد اليوم راسخاً، ويشكل بالتالي أرضيةً متينةً لحركة عالمية لمناهضة نظام الأبارتهايد، بما يشبه الحركة التي ساهمت في إسقاط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، مع مراعاة الاختلافات بين الحالتين. وأحد أهم نشاطات هذه الحركة سيكون فرض المقاطعة والعقوبات على النظام الحاكم في إسرائيل. غير أنّ الوصول إلى ذلك يقتضي تعبئة فلسطينية داخلية أيضاً، لأنّ أجزاء لا يستهان بها من الناشطين السياسيين ما زالوا يتجاهلون، أو لا يدركون، ماهية نظام الفصل العنصري والاضطهاد، والسمة الحاسمة لإقرار هذا الوصف في إلحاق الهزيمة بالحركة الصهيونية وحكام إسرائيل.
“كانت فكرة التوحيد، وما زالت، مبرّر إنشاء منظمة التحرير وبقائها، لكنّ المنظمة لن تستطيع القيام بدورها إن لم تفكّ بالكامل من مشروع أوسلو واتفاقياته “.
وهناك من يعتقدون أنّ وسم إسرائيل بصفة الاضطهاد والتمييز العنصري يقلل من أهمية تحديد صفاتها وممارساتها الجوهرية، باعتبارها صاحبة أطول احتلال في التاريخ الحديث، ومنفذة التطهير العرقي الأسوأ، وصاحبة مشروع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. ومن المهم أن يتعمّق وعي الجمهور الفلسطيني بأنّه لا تناقض بين ذلك كلّه ووسم إسرائيل والحركة الصهيونية بالصفة هذه، لأنّ عمق ذلك الوعي سيكون له دور حاسم في إنجاح النضال الفلسطيني والعالمي ضد نظام التمييز العنصري، بل وفي إعادة بلورة الهدف الإستراتيجي للنضال الوطني الفلسطيني، باعتباره لا يقتصر على إنهاء الاحتلال، بل يمتد أيضاً إلى إسقاط نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري في كلّ فلسطين التاريخية. وذلك يعني أيضاً إعادة توحيد نضال الشعب، بمكوناته الثلاثة في الداخل والأراضي المحتلة والخارج، باعتبار أنّ جميع هذه المكونات تعاني من نظام الاضطهاد والتمييز العنصري نفسه، فيتوقف الفصل المصطنع الذي أفرزه اتفاق أوسلو بين نضال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ونضالهم في الداخل أو الخارج، خصوصاً أنّ ممارسة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجّروا منها سيرتبط بالنضال ضد قانون القومية الإسرائيلي، والذي يحصر حق تقرير المصير في أرض فلسطين التاريخية باليهود.
وسيشكل النضال ضد الاضطهاد والتمييز العنصري (الأبارتهايد) فرصةً لإعادة بناء حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، والتي ضعفت وتبعثرت بعد اتفاق أوسلو، وبعد تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية لصالح السلطة، من خلال بناء حركة عالمية لمناهضة الأبارتهايد والتمييز العنصري، ولإسناد حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أرض وطنه.
“لا توجد قوة فلسطينية واحدة تستطيع بمفردها إدارة النضال الوطني الفلسطيني، ولا حلّ سوى توحيد الطاقات “.
ما يجب أن يكون مفهوماً أنّ تقارير “هيومان رايتس ووتش” و”بتسيلم” و”إسكوا” وغيرها توفر أسلحة وذخيرة مهمة للنضال الوطني الفلسطيني، لكنّها لن تقوم بمهمة الكفاح ضد الأبارتهايد بالنيابة عنه، فذلك سيبقى منوطاً بالشعب الفلسطيني وقواه الكفاحية الحية، ليس بتنظيم النضال الفلسطيني على الأرض وحسب، بل أيضاً من خلال بناء حركة عالمية للتضامن مع قضيته العادلة، ونسج وشائج العلاقات مع القوى التقدمية والديمقراطية العالمية. ويشير ذلك كلّه، مرة أخرى، إلى إلحاحية مهمة بناء قيادة وطنية موحدة، تتبنّى استراتيجية وطنية موحدة في مواجهة الحركة الصهيونية وحكام إسرائيل، بدل أن تستمر حالة التشرذم والانقسام، عندما تحاول كلّ قوة أو فصيل فلسطيني بناء مقاومتها المحلية وأذرعها الدولية بشكل منفصل بعضها عن بعض.
لا توجد قوة فلسطينية واحدة تستطيع بمفردها إدارة النضال الوطني الفلسطيني، ولا حلّ سوى توحيد الطاقات، مثلما فعلت الحركة الصهيونية بالضبط، والتي تواصل العمل كحركة موحدة تلملم كلّ أطراف الأحزاب والحركات الصهيونية، على اختلافها، نحو هدف واحد. وقد كانت فكرة التوحيد، وما زالت، مبرّر إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وبقائها، لكنّ المنظمة لن تستطيع القيام بدورها إن لم تفكّ بالكامل من مشروع أوسلو واتفاقياته، وإن لم تقبل بتطبيق مبدأ الشراكة في القيادة على أسس ديمقراطية.
هناك فرصة غير مسبوقة تنفتح أمام النضال الوطني الفلسطيني، ولا بدّ من استغلالها بسرعة، وحزم، ووعي، وعمل موحد.
* د. مصطفى البرغوثي – الامين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.