مقالة في العنف ضد النساء (2)

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

توقفنا في معالجة الثلاثاء الماضي، في الكلام عن العنف ضد النساء، عند النسق العربي ـ الإسلامي. والفرضية الرئيسة، في هذا الشأن، أن العنف مكوّن عضوي من مكوّناته. ولعلها مفارقة مأساوية، تماماً، وباهظة التكاليف، ألا تكتشف شعوب كثيرة تعرّبت وتأسلمت، على مدار قرون، ضرورة إعادة النظر في ميراث طويل وعريض، ولحظات تأسيسية فاصلة في تاريخها، إلا بعد صعود ظاهرة مُفزعة كداعش.
ولنفكر، دائماً، أن في كل محاولة لإنكار علاقة الظاهرة الداعشية بالنسق المذكور، أو تصويرها كانحراف عنه، ما يمثّل استدعاءً لدينامية من ديناميات جهاز المناعة الذاتي للنسق نفسه.
ومن الأفضل، فعلاً، التمثيل لهذا الأمر بمجاز الجهاز المناعي في جسم الإنسان. فلكل ثقافة في الكون خصائص تُعنى بحمايتها وديمومتها وتوليد ونقل ميراثها من جيل إلى جيل.
ولعل أبرز ما يسم الجهاز المناعي لهذا النسق التصدي بالعنف لكل ما لا يوافق روايته الذاتية عن نفسه والعالم، ورفع الرواية نفسها إلى مرتبة المقدّس.
ولكي نبقى على الطريق الصحيح، فلنقل إن إطلاق تسمية من نوع النسق العربي ـ الإسلامي ينطوي على قدر كبير من التعميم. ففي النسق نفسه ما لا يحصى من التباينات والفروق الاجتماعية والثقافية، ناهيك عن تعددية الذاكرات والهويات والتجارب التاريخية. ومن الإجحاف، بالتأكيد، عدم الانتباه إلى مزالق حشد حقب زمنية مختلفة في عنوان عام وعريض.
ومع هذا كله في الذهن، إلا أننا لا نستطيع الاستغناء عن فرضية النسق في ظل وجود الكثير من أوجه الشبه بين أنظمة سلطانية ومملوكية وعثمانية مُستحدثة، أنجبتها العلاقة القسرية بالأزمنة الحديثة، رغم اختلاف التسميات. ولا نستطيع، أو حتى يحق لنا، غض النظر عن السهولة التي تمت بها عملية نزع الحداثة، والانقلاب على ميراث عصر التنوير في بلدان كبلاد الشام، وشمال أفريقيا، ومصر، والعراق، منذ أواسط السبعينيات.
وإذا جاز تفسير هذا كله بطرق مختلفة، فمن الحماقة بالتأكيد، تجاهل البلادة الأخلاقية إزاء الظاهرة الداعشية، هذا إذا لم نقل التأييد الضمني في أوساط مختلفة لموجة الإرهاب الوحشية التي ضربت العالم العربي وأوروبا. وبالقدر نفسه، فإن نجاح الوهابية في التحوّل إلى مركز أيديولوجي للنسق، وسياسي (إذا أضفنا الخليج، واكتفينا بفترة ما بعد الربيع العربي) يُقدّم مدخلاً تفسيرياً يصعب الاستغناء عنه.
أحد أسوأ المرافعات، وأكثرها صلة بديناميات الدفاع الذاتي التي بلورها النسق العربي ـ الإسلامي، هو تفسير صعود الإسلام السياسي، وأعلى مراحله، أي الداعشية، بفوران من أسفل إلى أعلى، وبردة فعل عفوية، وطبيعية، من جانب شعوب نكّل بها الغرب. وهذه المرافعة أثيرة لدى اليسار، واليمين، على حد سواء. وليس ثمة ما هو أبعد عن الحقيقة منها.
فالظاهرة المعنية فُرضت من أعلى إلى أسفل، ونجمت، فعلاً، عن إحساس «المسلمين» بالقوّة، للمرّة الأولى منذ قرون.
لم يحدث أن سافر الدعاة بجوازات سفر دبلوماسية، وطائرات خاصة، واشتغلوا في عضوية مجالس وإدارة كبريات الشركات والمصارف الدولية، ولا كان لديهم كل هذا المال والنفوذ، ولا كل هذه المنصّات المتلفزة، كما حدث على مدار أربعة عقود مضت. لذا، مزاعم التنكيل بالمسلمين مُفتعلة، ولا أعتقد أن تنكيلاً بالمسلمين يفوق ما يحدث في المسجد الأقصى هذه الأيام، مثلاً. ولكن، لا حياة لمن تنادي.
ومع هذا كله في الذهن، نعود إلى النسق من خلال فكرة بديعة، ومن غير المفهوم، فعلاً، لماذا لم تنل ما تستحق من اهتمام لدى المعنيين. الفكرة لإرنست غيلنر، عالم الانثروبولوجيا، والمفكر التشيكي ـ البريطاني، الذي اهتم بدراسة «الإسلام».
أعرف، طبعاً، أن اسمه متداول في أوساط معيّنة، وأن شخصاً يشتغل في جامعة سعودية ترجم كتاباً له عن «الإسلام». والأكيد أن الفرضية التي نتكلّم عنها لن تحضر في كلامهم عنه.
فرضية غيلنر أن «إسلام الفقهاء» ظل محصوراً في مراكز السلطة المركزية، وأن مجتمعات مختلفة بعيدة عن المركز عاشت، وتنوّعت، وتعددت، وبلورت دينها الشعبي، ورجال دينها الشعبيين، ولكن انتشار التعليم، والمواصلات، وبسط المركز لسلطته على كامل الإقليم، مكّن الفقهاء من الوصول إلى أبعد نقطة هناك. وبالتالي، استعاد الفقهاء مكانتهم المركزية، وأصبحت «علومهم» هي «علوم» العامة، أيضاً. وبهذه الطريقة توحّد المخيال الديني على طريق التشدد والعنف.
يمكن الاستفادة من فرضية غيلنر بطرق مختلفة. فما ينجم عمّا يمكن تسميته الدين الشعبي، مثلاً، ليس سوى ما فرضت السوق بما تعني من علاقات القوّة والتبادل، والتراتبية الاجتماعية، من قيم وتقاليد لا تنسجم، بالضرورة، وفي كل الأحوال، مع مخيال المركز في حاضرة بعيدة للسلطة. والواقع أن التفكير في السوق، لا النص الفقهي، كمصدر للمخيال والدين الشعبيين، يُسهم في تفسير فرضية الفرنسي أوليفيه روا في «الجهل المقدّس: زمن دين بلا ثقافة».
فالثقافة هي الفعل الحي للسوق، والاستقرار الحضري، وبلورة ذاكرة، ومراكمة تقاليد، أما النص الفقهي، فإذا كان تمثيلاً لثقافة من نوع ما قبل ألف عام، إلا أنه أصبح مقطوع الصلة ببيئة ثقافية أنجبته بعد كل هذا الوقت، ومتعالياً على الزمن والثقافة في آن.
ولعل هذا مصدر جاذبيته في مدن تريّفت، ومجتمعات تعيش، في ظل أنظمة مملوكية وسلطانية وعثمانية، تحوّلات راديكالية متلاحقة. ولعل فيه ما يفسّر نجاح الوهابية في التحوّل إلى مركز أيديولوجي للنسق لا بقوّة الدولارات النفطية وحسب، بل وقوّة نص بلا ثقافة يخاطب كائنات مخلّعة الأوصال بالمعنى الثقافي، أيضاً. في نص كهذا كينونة النساء تجريدية، تماماً، ومصدر تهديد دائم لنسق مأزوم لا يملك من وسائل الدفاع الذاتي سوى العنف.