في كل مرة تلسعنا الذكرى ونحن نتحضر لكتابة مقال النكبة كواجب وطني؛ حين نعود بالذاكرة لتلك القرى والمدن التي سقى أهلنا بياراتها بعرق جبينهم، وتلك المدن التي تنام على الشواطئ تهدهد رمل البحر في عكا ويافا وحيفا واللد، لكن في هذه الذكرى كانت تلك المدن تندفع زهوراً لتحوّل خريف النكبة إلى ربيع؛ فالكرمة التي تركها جيل النكبة في حقول مرج ابن عامر تثمر كرامة وكبرياء في الناصرة ويافا واللد والرملة وغزة ونابلس وجنين.
قبل عام من الآن، كنا في ذروة إحباطنا الوطني ونحن نراقب رئيساً أميركياً يعلن تصفية القضية في مزاد علني اسمه «صفقة القرن»، وفريقاً عربياً يتأهب لزحف أميبي نحو تل أبيب وكأن كل العالم ضدنا. لكن الآن وبعد عام تقلب القدس الطاولة وتعيد فلسطين كسيّدة البدايات التي تتربع على عرش الحكايات السياسية، وتعيد نبض الرواية في قلب السياسة لتوقف العالم على قدم واحدة من جملة واحدة صدحت بها الصدور العارية: «هنا فلسطين».. هنا نحن حجارة الوادي وحراس التاريخ وراسمو خطوط الجغرافيا وتعرجاتها، ونحن أصحاب الكلمة مهما تصرف التاريخ بغباء.
قبل شهرين، أهداني الصديق فراس كيلاني رواية «أولاد الغيتو» للكاتب اللبناني إلياس خوري، والتي تدور أحداثها في اللد أثناء النكبة حين وضعت إسرائيل مَن تبقى من سكان هذه البلدة في أسوار شائكة. وبكل الإذلال الذي حملته تفاصيل الرواية بعواطف دلقها الروائي الكبير، تساءلتُ مع صديقي فراس: ما الذي يمنع الكتاب الفلسطينيين من التوقف عند تفاصيل النكبة، لكن الذكرى الثالثة والسبعين لها يحييها الشعب على طريقته الحرة منتفضاً في كل الساحات والمدن والقرى والبلدات.
اللد العظيمة، التي أهينت قبل ثلاثة وسبعين عاماً، حين لوّحت خلود بطفلتها التي شارفت على الموت وسط الجدار، الآن تهبّ بكل عنفوانها، وجعلتني أقارن مع رواية قرأتها للتوّ حبلى بالإهانة وشباب خرجوا للشوارع لديهم كل هذا الكبرياء والكرامة، جعلتني أفتش في ملامحهم وأحاول تركيب الملامح على خلود والحاج إيليا بطشون المسيحي الذي أعلن إسلامه أم هم أحفاد مأمون أو غسان بطحيش ومفيد شحادة، أم أي منهم أبناء منال؟ إنهم ما تبقى من ذاكرة تصر على إعادة كتابة الواقع بلغة المستقبل لا بحبر الماضي الأسود الذي أذلهم في ساحة جامع دهمش، لكنهم الآن يذلون الدولة ورئيسها ويعيدون الكتابة من جديد، فالتاريخ الذي وقف على رأسه يعيدونه على قدميه.
كل الأشياء حين تزيد على حدها تتحول إلى ضدها، ويبدو أن ذكاء نتنياهو الزائد تحوّل عندما زادت جرعته إلى غباء؛ حين أملى على الإدارة الأميركية السابقة برنامج الإذلال، يا الله! كم كان الزمن قصيراً ليقلب المعادلة بهذه السرعة ونرى رئيس الوزراء الذي كان يحتفل ابتهاجاً يقفز كمن لدغته أفعى بين عناد القدس وصواريخ غزة! والأهم مدن وبلدات الداخل التي هدمت أكثر من سبعة عقود من التدجين التي عكست الصدع في دولة تحاول أن تصبح مجتمعاً طبيعياً، لنكتشف أن هويتها حملت منذ التشكيل بذور تفسخها وعقلها الاستعلائي الذي ارتطم بحقيقة الواقع، وأن هذا العقل لن يجد له متسعاً في عالم المستقبل وحتى الحاضر؛ لأنه عقل الغيتو الديني العنصري في عالم الانفتاح والمساواة.
تنادي القدس لتجيب غزة، ويسمع صدى صوتها في اللد وحيفا ويافا والبعنة والناصرة وأم الفحم وجنين وعارة وعرعرة. كادوا يلوون ذراع القدس وإذا بكل الوطن ينتفض، وغزة تتقدم بما حملته من إرادة رغم فقرها وألمها، وكأن قدرها شاء أن تحمل المشروع الوطني على أكتافها؛ لأنها المدينة الساحلية الوحيدة التي نسيت إسرائيل أن تحتلها، فأنتجت ثورة ما زال صداها يتردد، فكلما تعرض المشروع الوطني لأزمة آخرها القدس كانت غزة تشحذ سيفها مقابل سيف يوشع.
إنها المدينة الفقيرة والبائسة والتي تزحف على بطنها من الجوع، لكنها لا تأكل بثديَيها؛ لأن لديها فائضاً من العز، وأمانة التاريخ التي أودعها بها ياسر عرفات قبل أن يغادر ويضع سره ووصيته في أبنائها الذين يحملونها على أعناقهم ويقدمونها فداء للقدس وللوطن. ففي ساحة غزة هناك مجسم لطائر العنقاء الذي ينبعث من الرماد، يبدو أنه يجسّد هذه المدينة التي يدمرها الفاشي كل مرة ويحوّلها إلى ركام؛ لأنها تعود من الرماد حارسة للحلم والمشروع بصدرها العاري الذي يستمد قوته من تماسك شعبه.
هذه المرة كان الأمر مختلفاً؛ فالشعب الذي أريد له أن يموت ينبعث من كل فج عميق، وتنكشف أمام صناعاته المنزلية التي لم تنتجها مصانع السلاح كل مدن وبلدات إسرائيل، وتؤذن القدس التي أراد أن يلغيها من التاريخ ليصلي العالم على وقع أذانها وتحرك كل فلسطين وشعب فلسطين القوي، فلأول مرة يصرخ الفلسطيني طالباً نجدة الفلسطيني، متجاهلاً العرب والمسلمين، لتكون الإجابة أقوى كثيراً من عالمَين قررا أن يخرجا من التاريخ وهما يمارسان فهلوة التطبيع مرة أو الاكتفاء بالدعاء مرات ومرات.
هذه المرة لم نفتش بمعول الألم عن تاريخ النكبة في المدن والقرى والبلدات، ولم نستدع من الذاكرة صورة مذبحة هنا ومجزرة هناك؛ لأن المدن والبلدات الآن تستدعي الذكرى بلون ورائحة مختلفَين، فقد قفزت اللد وحيفا ويافا والجليل لتعيد كتابة النكبة على طريقتها ومعها نابلس والخليل وغزة، على طريقة قيامة الوطن المعلق على الصليب، لقد قام ليشق طريقه نحو السماء، قام في ليلة القدر منتفضاً، وقام في عيد القيامة، وقام في ذكرى النكبة ليكتب بطريقة جيل الأحفاد، الذي يعيد صياغة الرواية، رواية خريف النكبة بربيع يتفتح في كل زاوية...!!!!