جولة الكفاح الفلسطينية الراهنة : المفاجأة !

حجم الخط

بقلم أنطـوان شلحـت

 

يتفق جلّ المحللين الإسرائيليين على أن أكثر صفة تليق بجولة الكفاح الفلسطينية الحالية التي انطلقت من مبدأ حماية القدس وأهلها وممتلكاتهم، وسرعان ما استقطبت كلا من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48، هي كونها جولة مفاجئة، وبالذات فيما يتصل بتدحرجها ووصولها إلى داخل إسرائيل.

وبمتابعة سريعة يمكن أن نستشف من هذه التحليلات أن ما استدعى الالتجاء إلى هذه الصفة هو واقع أن إسرائيل تعاملت مع قضية فلسطين في الآونة الأخيرة كما لو أنها قضية منسية لا من طرفها فقط إنما من جهة أطراف أخرى كثيرة ذات صلة بينها أطراف عربية، بالإضافة إلى أطراف دولية، وكل ذلك في وقت كانت الساحة العالمية عرضة لمواقف إدارة أميركية (سابقة) متماهية مع سياسة اليمين الإسرائيلي وروايته التاريخية ورمت بكل ثقلها لجرّ أطراف كثيرة لتسوية قضية فلسطين وفق خطة هي إلى تصفيتها أقرب، عرفت إعلامياً باسم “صفقة القرن”. وأمكن ملاحظة هذا التعامل الإسرائيلي مع قضية فلسطين أيضاً، من خلال الأزمة السياسية غير المسبوقة التي تشهدها إسرائيل منذ أكثر من عامين وتتسم أكثر شيء بما يشبه غياب الجدل السياسي حيال موضوعات كانت تحضر بقوة في الأزمات السياسية السابقة ولا سيما في جولات الانتخابات، وفي مقدمها قضايا الاحتلال والاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ومستحقات عملية التسوية.

في ضوء ذلك جاءت جولة الكفاح الفلسطينية الحالية لتؤكد أن نسيان إسرائيل لقضية فلسطين، وهو ما ساعدت جائحة كورونا على تسيير أمره، هو لا أكثر من مُجرّد تناسٍ سرعان ما بددته وأعادت قضية فلسطين ليس إلى مركز الأجندة الإسرائيلية العامة فحسب إنما أيضاً إلى صدارة الاهتمام الإقليمي والعالمي.

من الحق أن يُقال إنه من السابق لأوانه الحديث عن التداعيات التي ستترتب على جولة الكفاح الحالية سواء فيما يتعلق عموماً بقضية فلسطين أو فيما يرتبط خصوصاً بمسألة العلاقة مع الفلسطينيين في إسرائيل وقواهم السياسية، وهي مسألة ازدادت حضوراً في ظل الأزمة السياسية الداخلية والمساعي المحمومة المبذولة إلى ناحية استمرار التمسك بحكم بنيامين نتنياهو أو في المقابل إلى ناحية التخلّص من هذا الحكم، والتي باتت مرهونة بكيفية ما بالاعتماد على قوة الأحزاب السياسية للفلسطينيين، وذلك على خلفية ميزان القوى في الحلبة السياسية والحزبية في إسرائيل حيال الموقف من نتنياهو، تأييداً أو معارضةً.

غير أن ما يمكن قوله من الآن هو أن هبّة الفلسطينيين في الداخل أعادت التذكير لمن تناسى أنهم جزء من الشعب الفلسطيني، وأن قضيتهم نشأت تاريخياً كجزء من قضية فلسطين، وهكذا هي إلى الآن، وهكذا ستبقى.

من ناحية أخرى، تمثّل أحد محاور التعاطي الإسرائيلي مع جولة الكفاح الفلسطينية الحالية في توجيه نقد حادّ إلى مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية من جراء عدم قدرتها على استشراف إمكان اندلاعها.

ولدى متابعة ما نُشر في المحور المتعلق بالاستخبارات لا مفرّ من ملاحظة أن النقد كان صارماً للغاية، لا سيما في ضوء واقع أن مؤسسة الاستخبارات نفسها ارتكبت في الأعوام الأخيرة إخفاقات كثيرة في مجال استشراف التطورات ذات الصلة بقضية فلسطين وسائر قضايا منطقة الشرق الأوسط. ولتخفيف وطأة “الجلد الذاتي” فإن كبار المحللين العسكريين والاستراتيجيين استعادوا حقيقة أن احتمالات نجاح الاستخبارات في استشراف سلوك الجماهير الشعبية تبقى ضئيلة للغاية، فضلاً عن أن استخبارات دول أخرى أقوى نفوذاً من إسرائيل واجهت الإخفاق في هذا المجال، بل وفي مجالات محدّدة وقابلة للاستشراف أكثر، ولعل أشهرها، إذا ما نأينا بأنفسنا عن نظرية المؤامرة، كامن في “إخفاق الاستخبارات الأميركية في معرفة عدم امتلاك الرئيس العراقي السابق صدام حسين أسلحة دمار شامل”. وفي هذا السياق فإن البعض استعاد، بقدر من السخرية السوداء، كيف أن وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، قال عندما سُئل في مؤتمر صحافي عن إخفاقات استخبارات بلده قبيل غزو العراق: “يبدو أننا لا نعرف أننا لا نعرف”!

ويتطلب هذا المحور عودة أخرى، وإلى حين القيام بذلك تنبغي الإشارة إلى أننا شهدنا تعاطياً معه مرات كثيرة في السابق، وجرى التنويه في إحداها (إبان اندلاع ثورات “الربيع العربي”) بأن القضية في العمق ليست منحصرة في معادلة أن “إسرائيل لا تعرف أنها لا تعرف”، بقدر ما إنها تعبر عن هزيمة أخرى لـ”العقل الإسرائيلي” الذي كان ولا يزال أسير مفهوم متكلس أجاد أحد المحللين الإسرائيليين وصفه حين قال: المشكلة ليست كامنة في رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أو في رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، وإنما هي مشكلتنا جميعاً حينما نسألهما. والمشكلة أيضاً هي أننا لا نزال، بعد كل أخطاء تنبؤهما وتنبؤ آخرين، نفكر أنه في الأمور التي تتصل بإرادة الجمهور العريض وليس بالمعلومات التكتيكية، ثمة أحد يعرف أكثر من الجميع لا لشيء إلا لأنه يحمل درجات ورُتباً (عسكرية) وفي مقدوره أن يتنصّت سرّاً. وأكد هذا المحلل نفسه أنه فقط الدولة التي تنظر إلى كل شيء عبر فوهة المدفع بمقدورها أن تجعل أفرادها العسكريين مسؤولين بصورة حصرية عن “تقدير المواقف الوطنية العامة”. ورأى آخرون غيره أنه حان الوقت للتحرّر من التفكير القائل إنه إذا كانت لدى إسرائيل استخبارات جيدة، فإن في مقدورها أن تتغلب على كل المشكلات الخارجية والأمنية.

وما أشبه الليلة بالبارحة.