رغم أن القصف الإسرائيلي على قطاع غزة كان مدمراً ومهولاً، وقاسياً وعنيفاً، ومرعباً ومخيفاً، وقد زلزل الأرض ورَجَّهَا رجَّاً وبَسها بَساً، وكادت لهول القصف لولا لطف الله عز وجل أن تكون هباءً منبثاً، إذ مادت الأرض بما عليها وانتفضت، فسقطت مبانيها، ودمرت أبراجها، وانهارت بيوتها، وتشققت طرقها، وبُقِرَ جوفها، واحترقت معاملها، وسويت بالتراب مصانعها، واشتعلت النيران في مخازنها، وقد استشهد من أبنائها 250 شهيداً، وسقط مئات الجرحى، ولكن صوت الفلسطينيين لم يصخب شاكياً، ولم يعلُ طالباً الهدنة ومستعجلاً وقف إطلاق النار، بل بقيت المقاومة صامدة، ومع شعبها ثابتة، وما توقف قصفها، ولا هدأت صواريخها، ولا تمكن العدو من معرفة منصاتها وإسكات فوهاتها.
لكن الإسرائيليين الذين قاموا بكل هذه الجرائم النكراء، وارتكبوا فعلتهم الخبيثة في قطاع غزة، فاستحقوا أن تقصفهم المقاومة بالمثل، وأن ترد عليهم صاعاً بصاعٍ، وصفعةً بصفعةٍ وركلةً بركلةٍ حتى يرتدعوا، فارتعبوا تحت هول الصدمة واختبأوا، وخافوا ولجأوا، وجبنوا وصرخوا، أدركوا صبيحة الجمعة العظيمة أنهم لم ينتصروا في الحرب، ولم يكسبوا المعركة ولا جولة القتال، ولم يحققوا شيئاً من أهدافهم، ولم يصلوا إلى غاياتهم، فلا هم دمروا الأنفاق، ولا هم قتلوا المقاومين أو جردوهم من سلاحهم، ولا هم استطاعوا أن يدخلوا قطاع غزة، ويخوضوا فيه حرباً بريةً، يطهرونها من "المقاومة"، و"يحررونها" من حماس، ويستعيدونها إليهم، أو يسلمونها إلى غيرهم لإدارتها وإعادة تنظيمها.
خرج الإسرائيليون وهم ستة ملايين أو ربما أكثر من ملاجئهم، وتحرروا من سجنهم، الذي خضعوا فيه مكرهين كرهائن حربٍ، ولعلهم فرحوا بالحرية لكنهم لم يفرحوا بالنصر، إذ لم يعيشوه ولم يدركوه، وفرحوا بالخروج من ضيق الملاجئ إلى سعة الدنيا، لكنهم لم يخرجوا ليلاً إلى الشوارع والطرقات، ولا إلى الميادين والساحات، وهم يرددون أهازيج النصر وأغاني العزة، ولم يسيروا في مسيراتٍ سيارةٍ وأخرى راجلةٍ، ولم يطلقوا الرصاص في الهواء فرحاً وطرباً وابتهاجاً، ولم تنقل وسائل إعلامهم صور النصر ومظاهر الفرح بين مستوطنيهم، وهم يتبادلون التهاني ويضجون بالضحكات، ويوزعون الحلوى ويرفعون بالشكر الدعوات.
نام الإسرائيليون ليلتهم كموتى، وأغلقوا الأبواب عليهم حزنى، ولم يفتحوا لأحدٍ حسرةً وخجلاً، إذ علام يفرحون، وبماذا يبتهجون، وكيف يفتحون عيونهم في وجوه بعضهم وهي الكسيرة الضعيفة، بل كانوا يفرون من بعضهم، ويخافون أن يلتقوا بأنفسهم، وقد زاد في حسرتهم مظاهر الفرح الفلسطينية، والأبواق التي أطلقت في الهواء طرباً، فكانت أقوى من صافرات الإنذار لكنها كانت تغيظ وتقهر، وتزيد في حنقهم وتضاعف في ألمهم، إذ شملت الأفراح كل فلسطين، وغطت مساحة الأرض كلها، فلم يعد لهم فيها موطئ قدمٍ إلا لأسىً أو رحيلٍ، أو لصمتٍ كسيرٍ أو استسلامٍ ضعيفٍ.
أصاب وسائل الإعلام الإسرائيلية صمتٌ كصمت القبور، وطغت على برامجها الموسيقى الجنائزية، وبدأت تذيع برامج وكأنها في حدادٍ، وتنقل صوراً وكأنها تعيش مأتماً، وتنقل تصريحاتٍ وكأنها العويل، اللهم إلا من بعض الكاذبين الجهلة، الذي حاولوا أن يظهروا هزيمتهم نصراً، وأن يصوروا فشلهم نجاحاً، وأن يُزَوِّروا الوقائع ويبدلوا الحقائق، ليبيعوا نفسهم وشعبهم نصراً زائفاً وتفوقا مشوهاً، ولكنهم سرعان ما فشلوا، إذ أن بضاعتهم كاسدة وروايتهم باطلة، وحقائق الأمور على الأرضة قوية دامغة، فالمقاومة نفذت وعيدها وبقيت، وأطلقت صواريخها وصدقت، وأجبرت المستوطنين على تصديقها وفعلت.
عجز الإسرائيليون عن تفسير ما يحدث لأطفالهم، وحاروا في شرح ما جرى لهم، فقد استجابوا لهم إذ أجبروهم على النزول إلى الملاجئ، ولكنهم كذبوا عليهم إذ قالوا لهم بأنهم سينتصرون على الفلسطينيين وسيهزمونهم، وأنهم سيذهبون بعد المعركة إلى الملاهي والملاعب، وإلى الحدائق والمنتزهات، ولكن شيئاً مما وعدوا به أطفالهم لم يتحقق، بل عادوا بهم إلى بيوتهم والحزن بجللهم، والصمت يشملهم، والوجوم يطغى عليهم، وكأن المصاب لم يستثنِ أحداً منهم.
سيفكر الإسرائيليون ألف مرةٍ قبل أن يعيدوا التجربة، ويفكروا من جديد قصف غزة أو الاعتداء عليها، فاستهدافها لن يكون بلا ثمن، وقصفها سيلزمه ردٌ موجعٌ ومؤلمٌ، كما لن يتفردوا بقطاعٍ من شعبنا أو بشريطٍ من أرضنا، فنحن جميعاً واحدٌ، أرضاً وشعباً ومقاومةً، ولم يعد ضرب المقاومة سهلاً، أو اجتياح أرضها نزهةً، ولن يستمر ألمُ الفلسطينيين وحدهم، بل سيتألم الإسرائيليون وسيبكون، وسيكتوون بنار الحرب وسيحترقون، وإن عادوا لمثلها فإن كيانهم سيتفكك وعن أرضنا سيرحلون.