وقف إطلاق النار والعودة للوضع الراهن !؟

حجم الخط

بقلم: د. دلال صائب عريقات

 

 

يجري تحويل الحديث حول “فلسطين” إلى خطاب حول وقف إطلاق النار والتهدئة والعودة للعملية السلمية. من المهم هنا عدم الانحراف عن السياق الأوسع لجرائم إسرائيل، يجب على المجتمع الدولي أن يفهم أن وقف تصعيد العنف وتحقيق السلام أمر مستحيل دون إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري، وما يفرضان من اضطهاد وتهجير واستيلاء على الأراضي واعتداءات وإعدامات ميدانية متكررة تجيزها دولة الاحتلال.
أثناء قصف المدنيين في غزة لمدة 11 يومًا على التوالي، واصلت القوات الإسرائيلية هجومها على القدس الشرقية، وتواصلت هجمات المستوطنين على سكان الضفة. إن ما نشهده في الشيخ جراح ليس إجراءً عشوائيا، بل هو جزء من منظومة الاستيطان الكولونيالي بهدف توسيع الكتل الاستيطانية تنفيذاً لخطط الضم حول القدس المسماة E1 وE2 وذلك بهدف عزل القدس الشرقية عن الضفة الغربية تماماً ومصادرة كل المناطق المسماة (ج).
تحتاج إدارة بايدن إلى الاعتراف بأن ما نشهده اليوم في القدس يأتي نتيجة للإملاءات التي فرضتها “صفقة القرن” تحت ادارة دونالد ترامب. اعتراف الإدارة الأمريكية السابقة بالقدس عاصمة لـ “الدولة اليهودية” متجاهلة حقوق 300.000 فلسطيني من سكان القدس هو بمثابة ضوء أخضر من الولايات المتحدة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي للاستمرار بالاعتداءات وعمليات التهجير القسري بحق سكان الشيخ جراح في انتهاك للقانون الدولي وهي أعمال ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.
وقف إطلاق النار في غزة لا يكفي. من الضروري حماية 500 فلسطيني من 28 عائلة في الشيخ جراح. يجب الحفاظ على حقوقهم وضمان الحقوق الوطنية الفلسطينية في القدس الشرقية. قبل كل شيء يجب إنهاء الاحتلال ومنح الفلسطينيين حقوقهم السياسية والمدنية، وإلا فإن الجرائم التي شهدناها في جميع أنحاء فلسطين ستستمر على أيدي القوات الإسرائيلية والمستوطنين.
تتحمل إسرائيل كقوة محتلة المسؤولية الكاملة عن الجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين داخل حدود عام 1948 وفي الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية بما في ذلك سكان الشيخ جراح.
وتتحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية كبيرة عما يحدث، إذ إن اعتداءات المستوطنين في القدس مستوحاة من الاعتراف بالقدس عاصمة لليهود فقط، وهو الأمر الذي لم تغيره إدارة بايدن منذ الإدارة السابقة. ومن المستحيل تجاهل 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية التي ترسلها الحكومة الأمريكية إلى إسرائيل سنويًا، بالإضافة إلى مبيعات الأسلحة المدعومة وضمانات قروض بقيمة 8 مليارات دولار على الأقل مما يساهم في تمكين اسرائيل من ارتكاب جرائمها ضد الفلسطينين. إضافة لذلك ما نشهده في الأروقة الدبلوماسية وخاصة الأمم المتحدة، حيث أعطت الإدارات الأمريكية المتعاقبة غطاء لإسرائيل لارتكاب جرائم حرب بعد استخدام الڤيتو ٣٩ مرة، كان آخرها استخدام سفير امريكا لحق النقض ضد قرار مجلس الأمن الدولي في 16 أیار الجاری لوقف إطلاق النار وفرض التهدئة في غزة.
كما ويتحمل المجتمع الدولي بما في ذلك القوى الإقليمية المسؤولية أيضًا. حيث ترفض العديد من الحكومات محاسبة إسرائيل على جرائمها. من الإمارات إلى المملكة المتحدة إلى كندا، لم يعترف المسؤولون الحكوميون حتى بالقتل العمد المستهدف للمدنيين الفلسطينيين في غزة أو الاستيلاء على مساكن الفلسطينيين في القدس.
ملّ الفلسطينيون من عدم مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية بعقوبات أو محاسبة. وقد عبر الفلسطينيون في أراضي فلسطين المحتلة والضفة وغزة والشتات عن هذا الغضب عندما أضربوا يوم الاثنين، 18 أیار، مما أدى إلى شلل اقتصادي وعمت المظاهرات والمسيرات مدن العالم الكبرى. من المؤكد أن الضغط على الحكومة الإسرائيلية بالعقوبات والمقاطعات لن يضع حدًا لـ 73 عامًا من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية – لكنها ستكون البداية.
وقف إطلاق النار جاء بعد ان قامت قوات الاحتلال بقتل 250 روحاً، بينهم 65 طفلاً، وأصابت أكثر من 2000، وشردت أكثر من 90 ألفًا، ودمرت أكثر من 1800 وحدة سكنية، وقصفت 74 مبنى حكوميًا و 33 مركزًا إعلاميًا، وحمت إرهاب المستوطنين الذي عم القدس والضفة. بعد كل هذا الدمار الانساني والمادي، ارتفع مستوى حالة الطوارىء في المنطقة وتدخلت الادارة الأمريكية بعد ان تجسد الصمود والكرامة الفلسطينية في المقاومة التي أعادت للقضية الفلسطينية زخمها إضافة لإعادة إحياء الذاكرة والوجدان الوطني وإعادة روح الوحدة الوطنية للفلسطينيين في كافة أماكنهم.
وقف إطلاق النار ليس الانتصار النهائي تحت الاحتلال الإسرائيلي. النصر الحقيقي هو عندما يحتفل الفلسطينيون بالحرية برفع الحصار عن غزة وإيقاف تهويد القدس وإنهاء الاحتلال. وقف إطلاق النار هو وقف للقصف الجوي والعنف ولكنه حتماً لا يكفي للعودة إلى الوضع الراهن، لا بد من البناء على هذه الهبة الوطنية وعدم الرضوخ لمطالب المجتمع الدولي الذي بدأ يدعو لمؤتمرات ومبادرات لإعادة إعمار غزة وإعادة إحياء العملية السلمية، في ظل الروح المعنوية التي تركتها غزة، من غير المقبول ان يأتي الابتزاز المالي مقابل التنازل السياسي.

  • د. دلال عريقات: أستاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي، كلية الدراسات العليا، الجامعة العربية الأمريكية.