الآن، وقد سكتت مدافع الاحتلال، وتوقفت غاراته الوحشية، وصمتت صواريخ المقاومة بعد أن أبلت بلاء حسناً، وبدأ غبار المعركة بالانقشاع، وأخذت الصورة تتضح أكثر، ثمة الكثير مما يمكن أن يُقال.
في الاحتفالات الشعبية بالنصر، وفي الكثير من المقالات والمنشورات على وسائل التواصل كانت المقولات الأكثر ترديداً: إن «صواريخ المقاومة» أعادت الروح الوطنية للشارع، وأنهت ربع قرن من الخنوع والاستسلام، ورفعت معنويات الناس، وقربت النصر، وفرضت معادلات جديدة في الصراع، وعدّلت موازين القوى، وجعلت الملايين في العالم يتظاهرون تأييداً لها.
لنناقش بهدوء، ودون انفعالات عاطفية مدى صحة هذه المقولات.
بداية، لا شك أن صواريخ المقاومة جاءت هذه المرة مختلفة عن كل المرات السابقة، في مدياتها، وفاعليتها، وتأثيرها، وباعتقادي أن أهم دلالات ذلك أن الفلسطيني لم يعدم خيار المقاومة، وما زال بوسعه إيلام إسرائيل.. ولكن السؤال: هل وحدها صواريخ المقاومة من فعلت كل ذلك؟ في ظني، أن الهبّة الشعبية التي بدأت في القدس، وصورها الجميلة التي ملأت الفضاء، وأشكال المقاومة الشعبية التي أبدع فيها المقدسيون هي التي ألهبت مشاعر الجماهير، وألهمتهم، ودفعتهم للخروج فيما يؤسس لبداية انتفاضة شعبية، وهي التي وحدت الشارع الفلسطيني. ولو رجعنا ليومين قبل انطلاق حرب الصواريخ، سنتذكر أكبر مسيرات شعبية منذ سنوات انطلقت في رام الله وجنين ونابلس ومدن أخرى، وفي اليوم الذي سبق الصواريخ اندلعت باكورة انتفاضة الداخل في اللد، ما يعني أننا كنا على أعتاب انطلاقة انتفاضة شعبية ستشمل في كل فلسطين. ما دليل ذلك؟
الثورات الشعبية، والانتفاضات الجماهيرية وحسب كل الشواهد التاريخية (في فلسطين، وفي العالم) لم تكن لتحدث إلا عندما يلتقي الأمل واليأس معاً، وهذا شرطها الأساسي؛ أي عندما تصل الجماهير إلى مرحلة اليأس من المجتمع الدولي، واليأس من الحلول المطروحة، واليأس من طريقة إدارة الصراع المتبعة، وهذا يشمل اليأس من النخب التي تدير الصراع، أي المجموعات المسلحة، فرق التفاوض، الجهود الدبلوماسية. حيث إن هذه الإستراتيجيات تحتاج إلى نخب محددة تؤديها، وليس للجماهير فيها من دور رئيسي، هذا أولاً، وثانياً الاعتقاد بأن هذه الإستراتيجيات لم تعد مفيدة، وهنا سيلتقي هذا اليأس مع الأمل بإمكانية التغيير، أي إيمان الجماهير الشعبية بأنها هي التي يمكن أن تُحدث التغيير، وبأسلوبها الخاص، وهنا بالذات تقتنع بأن دورها قد حان، وصار ضرورياً وحاسماً. عند هذه اللحظة التاريخية تحديداً تندلع الانتفاضة، ولكن حتى تنجح وتستمر وتتسع تحتاج إلى الثقة بالقيادة، وإلى بيئة محلية حاضنة، وظروف إقليمية مساندة؟
باختصار، تأتي الانتفاضة بعد نضوج جملة من الظروف الذاتية والموضوعية، وكل ما تحتاجه حتى تنفجر هو شرارة. شرارات عديدة شهدناها في المرحلة السابقة، ومع ذلك لم تندلع انتفاضة منذ العام 2004، ما يعني أن الظروف لم تكن ناضجة آنذاك.. فما الذي تغيّر هذه المرة؟
كل ما ذكرناه عن التقاء اليأس بالأمل ينطبق على الأحداث الأخيرة كإرهاصات ومقدمات لاندلاع انتفاضة، وجاءت أحداث الشيخ جراح والأقصى بمثابة الشرارة، التي بدأت نيرانها تشتعل في عموم فلسطين، وكان متوقعاً تطورها واتساعها.
جاءت صواريخ المقاومة في لحظة حاسمة، قد نختلف أو نتفق على تأثيرها على تواصل واستمرارية الانتفاضة. هذا ستبينه مقبل الأيام، ولنتذكر ما جرى في حزيران 2014، حين استغلت إسرائيل قصة اختفاء المستوطنين الثلاثة، وصعّدت من إجراءاتها العدوانية الاستفزازية في الضفة الغربية، ولما كادت أن تتحول إلى انتفاضة، حولت مدافعها باتجاه قطاع غزة، وهذا لأن إسرائيل تفضل حرباً في غزة على انتفاضة في الضفة، خاصة إذا اشترك فيها المقدسيون وفلسطينيو الداخل.
ما هو واضح الآن أن غزة قد أُنهكت بشكل يفوق التصور، ومن حقها الآن أن تلتقط أنفاسها، وتداوي جراحها، وترمم الخراب الذي خلفته الحرب، وهذا سيحتاج سنوات عديدة.
في الضفة الغربية (والقدس في قلبها) ما زالت المواجهات مستمرة، وقضية الشيخ جراح، واقتحامات الأقصى لم تحل، والتحدي المطروح هم مواصلة الكفاح الشعبي، وتطويره.. وأكثر ما نخشاه الآن بروز فتنة في الشارع، ومظاهر التحزب والتعصب الفئوي، والادعاء باحتكار النضال الوطني، وفقدان حالة التوحد الشعبي، واستبدال علم فلسطين برايات الأحزاب، وبالتالي انحراف البوصلة، وتبديد كل أمل.
صحيح أن صواريخ المقاومة مثلت رافعة لحالة النهوض الشعبي، لكن كل ما يُقال عن رفع المعنويات، وعودة الروح الثورية، وإحياء الأمل، والتضامن العالمي، واستعادة مكانة القضية الفلسطينية، هو نتاج هبّة القدس أولاً، والشكل الرائع من المقاومة الشعبية التي قدمها المقدسيون، واندلاع المواجهات في عموم الضفة الغربية، ونهوض المارد الوطني لفلسطينيي الداخل، ومسيرات العودة على حدود فلسطين، وصواريخ المقاومة. ومن الخطأ اختزال كل ذلك بالصواريخ، وتجاهل التضحيات الجسيمة التي قدمها الفلسطينيون في كل فلسطين.
أما مسيرات التضامن والتأييد التي شهدتها معظم المدن العربية، والعديد من مدن العالم فكانت في حقيقتها للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وإيماناً منها بعدالة قضيته، وللتنديد بوحشية الجرائم الإسرائيلية.
والواقع يقول أيضاً: إن حالة السبات والتراجع والترهل والضعف التي سادت في آخر 15 سنة، أي بعد انتهاء انتفاضة الأقصى سببها انشغالنا بالانقسام، وتداعياته، وفي الصراعات الداخلية، وانغماس الفصائل الوطنية والإسلامية في مشروع السلطة وامتيازاتها (في الضفة وغزة على حد سواء، حيث القمع والفساد)، ما يعني أن «حماس» كانت أحد أسباب تلك المرحلة البائسة، وتتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، بسبب افتعالها الانقسام، ولأسباب أخرى يضيق المجال لذكرها. كما تتحمل «فتح» مسؤولية كبيرة بسبب طريقتها الباهتة والضعيفة في إدارة الصراع، وتراجعها عن دورها الريادي، وتخليها عن روحها الثورية.
بالمناسبة، هذه الرغبة الجامحة في التغيير الجذري، كانت ستحدث من خلال الانتخابات، لكن تأجيلها جعلها تخرج في وجه الاحتلال، وربّ ضارة نافعة. وللتذكير، كانت «حماس» و»فتح» قد اتفقتا على تشكيل قائمة مشتركة، ببرنامج سياسي موحد، وحكومة توافق وطني.
ختاماً، المطلوب الآن، تصعيد المقاومة الشعبية، والترفع عن التعصب الحزبي، والتخلي عن عقلية الإقصاء والإلغاء، وإنهاء الانقسام، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، وصياغة إستراتيجية نضال موحدة تستجيب للتحديات المطروحة، وتنسجم مع المعطيات الجديدة، وهذا يتطلب جهداً وطنياً كبيراً دونه خرط القتاد.