التمرد الفلسطيني الأكبر

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

بقلم: مهند عبد الحميد

اعتقدت حكومة نتنياهو أنها نجحت في وضع الشعب الفلسطيني وحقوقه على الهامش، فَسَرّعت من وتائر الاستيطان في الضفة الغربية والضم والتهويد والتطهير العرقي في القدس والأغوار والتمييز العنصري في مناطق 48، والحصار الخانق على قطاع غزة، فضلا عن الإمعان في تصفية قضية اللاجئين خارج وطنهم. كان ذلك يعني، أن حكومة نتنياهو تواصل ترجمة صفقة القرن المُدَمِرة للحقوق الفلسطينية على الأرض، بالرغم من سقوط إدارة ترامب صاحبة الصفقة التي استبدلت حل الصراع مع الشعب الفلسطيني، باتفاقات تحالف وتطبيع إسرائيلي مع دول عربية على قاعدة وجود خطر مشترك مزعوم. سقط ترامب ولم تسقط صفقته على الأرض بل ظلت مخلفاتها تفعل فعلها في صيغة تطهير عرقي في الشيخ جراح وسلوان، وسعي محموم لاقتسام المسجد الأقصى، ومحاولة سيطرة على ساحة باب العامود، وكل ذلك على خلفية المكافأة السياسية والاقتصادية والمعنوية والدبلوماسية التي حصلت عليها حكومة الاحتلال من اتفاقات التطبيع.
عندما حُشر الشعب الفلسطيني في الزاوية، وجرى العمل على إذلاله والنيل من كرامته وفرض الاستسلام عليه، بينما بدت الحركة السياسية عاجزة وغير قادرة على فعل شيء باستثناء بيانات الشجب والاستنكار وتقديم الشكاوى، عند تلك اللحظة العصيبة، جاء الرد بصيغة هبة شبابية مقدسية، سرعان ما تعززت بمشاركة شبان الـ48 والضفة الغربية. أخذ الشبان على عاتقهم الرد على مشاريع التطهير العرقي والسيطرة والتهويد، وكانت هبتهم امتدادا للهبات السابقة التي فرضت تراجعات إسرائيلية ذات طابع رمزي مهم. لقد اختلف طابع المواجهة مع المستعمرين بدخول الرعيل الرابع من المنكوبين على خط المواجهة، هؤلاء لا يخشون جنود الاحتلال ولا يأبهون لقمعهم وترهيبهم، وقد قدموا خطابا مختلفا عكس رؤية بسيطة لكنها عميقة للصراع بوصفه صراعا مع مستعمرين ومنظماتهم الأصولية العنصرية، هدفه التحرر، صراع منفتح على الكل الفلسطيني وعلى الخارج. صراع لا ينتهي بتراجع جزئي هنا وخطوات تكتيكية هناك. لا بديل عن كسر القيود الداخلية وثقافة الاستجداء التي جلبت المهانة. فالحرية لا يصنعها إلا أحرار وحرات.
كان مشهد اللقاء بين آلاف الفلسطينيين من مناطق الـ 48 الممنوعين من دخول مدينة القدس بحافلاتهم، والشبان المقدسيين الذين هرعوا لنجدتهم، ونجحوا في إدخالهم الى ساحات التضامن في المدينة رغم أنف المحتلين، كان مشهدا تاريخيا عبر ليس فقط عن إرادة التحدي، بل جسد وحدة الشعب في معركة الدفاع عن المصير والكرامة الفلسطينية. في هذه المواجهة تغلبت الإرادة الوطنية على صلف الاحتلال وأثمرت تراجعا إسرائيليا عن اقتحام الأصولية الدينية ومنظماتها الفاشية للمسجد الأقصى وتحويل مسيرتهم الاستفزازية بعيدا عن الحيز العام الفلسطيني المستهدف.
شيئا فشيئا، انتقلت المواجهة الى مواقع التماس مع حواجز الاحتلال في الضفة الغربية، وقد بدأت هبة القدس تؤسس لانتفاضة فلسطينية رابعة وبدأ شبان قطاع غزة يحاكون القدس والضفة والـ 48 في هذه الأثناء، دخلت المقاومة على الخط ودخلت في مواجهة عسكرية مع دولة الاحتلال التي شرعت في تدمير البنية التحتية في القطاع، وطوال أحد عشر يوما لم يتمكن العدوان الإسرائيلي من إيقاف الصواريخ التي وصلت (تل أبيب وحيفا والقدس ومطار اللد، فضلا عن مدن وبلدات غلاف غزة)، تمكنت المقاومة من شل الحياة لدى أكثرية الإسرائيليين، وألحقت خسائر اقتصادية كبيرة بالدولة ومؤسساتها. الشيء الأهم الذي احرزه المقاومون الشجعان هو النيل من هيبة جنرالات الجيش الذي لا يقهر، والتمرد على غطرستهم واستهانتهم وعربدتهم. إزاء ذلك، قوبل تدخل المقاومة بترحاب أغلبية الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، بعد أن ظهرت المقاومة التي تقودها حركة حماس وكأنها تثأر لهم ولكرامتهم من الاستباحة الإسرائيلية لكل ولأبسط الحقوق الفلسطينية المعرفة بالقانون الدولي ومتفرعاته، حالة نفسية فلسطينية، تؤيد وربما تحب من يعادي – حتى لو بالأقوال والخطابات مضطهديهم - وبالعكس فإن نفسية الفلسطيني تكره من يوالي عدوهم وقامعهم. وهذا يفسر استخدام سلاح المقاومة في الخطاب الموجه للشعب الفلسطيني بشكل خاص والشعوب العربية بشكل عام. في المواجهة العسكرية جرى تقديم نموذج مختلف عن نموذج استجداء الحلول والتعايش مع المردود السياسي والاقتصادي والمعنوي لاتفاق أوسلو. لهذا السبب انحازت أكثرية المجتمع والشتات الفلسطيني للمقاومة، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. وغلب على الانحياز شعبوية شارك فيها مثقفون. وإذا كانت تلك حصيلة المزاج العام فإنه ليس من مهمة المثقف ان يتماهى مع المزاج ويصبح جزءا من الحالة الشعبوية. دور المثقف هو دعم كل إيجاب وإنجاز وبطولة، ونقد المبالغات والأخطاء والاستخدامات والتوظيف الفئوي أثناء المواجهة العسكرية وبعدها. وهذا يعزز الإيجاب ويساعد في عدم تكرار الأخطاء. بمعنى آخر، على المثقف ان يقترب من الحقيقة، من خلال طرح الأسئلة ومحاولة الإجابة. السؤال الذي يستحق التوقف عنده هل كان افضل للشعب الفلسطيني مشاركة قطاع غزة بمسيرات احتجاج شعبية الى الشريط الحدودي مع دولة الاحتلال كجزء من انتفاضة القدس والضفة ومناطق 48، وإضفاء الزخم عليها، أم كان الأفضل الدخول في مواجهة عسكرية مع جيش له باع طويل في التدمير والقتل والتشريد. لماذا نلجأ الى أسلوب المواجهة غير المتكافئة الذي يشل قدرة المجتمع والمقاومة سنوات. صحيح ان امتلاك الشعب الفلسطيني لقوة مقاومة تدافع عن شعبها بات مسألة ضرورية في ظل سياسة التطهير العرقي الذي قد يتحول الى تطهير جماعي كما تقول المنظمات الاستيطانية الفاشية. ولكن استخدام هذا السلاح من المفترض أن يخضع للربح والخسارة والضرورة. تقول تجربة الهبات في القدس، إن الانتفاض الشعبي فرض تراجعات على الاحتلال في معركة البوابات وباب العامود والشيخ جراح والنبي موسى. لأنه أضاف لقوة المنتفضين قوة متضامنين وحكومات عالمية وقوى إسرائيلية مناهضة للاحتلال والعنصرية. مئات الآلاف في أوروبا وأميركا وأميركا اللاتينية وجنوب إفريقيا كانوا مع انتفاضة القدس وساهموا في فرض تراجعات إسرائيلية. وأثناء المواجهة العسكرية كانوا في احسن الأحوال ضد الجرائم والدمار الإسرائيلي المروع المرتكب بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. من مصلحة الشعب الفلسطيني ان تتحول الحراكات الشعبية والنخبوية العالمية الى قوة مؤازرة لانتفاضته وضاغطة لإنهاء الاحتلال والحصار والتمييز، وليس لشجب العدوان الإسرائيلي والتنديد بانتهاكاته فقط لا غير.       
في هذه المواجهة العسكرية، انعزل مركز القرار السياسي والشرعية عن أكثرية الشعب. حل التناقض لا يكون استبدال شرعية بأخرى وسلطة بأخرى دون ضمانات  تصنعها وتختبرها الانتفاضة الوليدة، دون تمحيص المشاريع والأجندات لقوى التدخل. ومن المفترض الخروج من اللعبة الإسرائيلية التي عنوانها تمكين "حماس" وإضعاف السلطة والتي تحاول المؤسسة الإسرائيلية راهنا قلبها الى تعزيز السلطة وإضعاف "حماس". مواصلة الانتفاضة ومراجعة نقدية لتجربة السلطتين وصولا الى الانتخابات التي سيكون لها الدور الأساسي في إعادة بناء المؤسسة الفلسطينية  على أسس الديمقراطية والتحرر الوطني.