لكي ينتصر الوعي على حروب كيّ الوعي

حجم الخط

بقلم جمال زقوت

 

 لم ينقشع بعد غبار الحرب العدوانية الاسرائيلية لاغتيال الحياة في غزة ودورها ومكانتها كرافعة للوطنية الجامعة ، بل، وربما لم يتمكن رجال الإنقاذ حتى اللحظة من انتشال جثامين بعض الضحايا من بين الأنقاض، كما أنه لم يُعرف أو لم يُجمِل مضمون اتفاق وقف إطلاق النار، مما يبقي الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات. وعليع، فإنه من السابق لأوانه إجراء قراءة كاملة في دلالات الأبعاد الاستراتيجية لنتائج هذه المواجهة الشاملة التي لم تقتصر على قوى المقاومة المسلحة فقط، بل انخرط فيها ملايين الفلسطينيين المنتشرين في كل أرجاء المعمورة إنطلاقًا من القدس وساحات الأقصى وأزقة الشيخ جراح، وكل بيت في قطاع غزة لتمتدّ في طول البلاد وعرضها، وفي كل تجمعات شعبنا في الشتات.

في ظل غياب أطُر ومؤسسات وطنية جامعة للوقوف بروحٍ وطنية مسؤولة وبعقلٍ بارد على مضمون وأبعاد هذه المواجهة، وما رافقها من وحدة ميدانية وشعبية جارفة ولّدت صمودًا أسطوريًا شكّل رافعة غير مسبوقة ساهمت في تعديل نسبي لميزان القوى العسكري المختل بصورة كبيرة لصالح اسرائيل، تبرز أهمية الحاجة لحوار هادئ وعقلاني في أوساط الرأي العام لتمكين الحركة الشعبية الناهضة من الإمساك بالحلقة المركزية التي توجّه الحراك الشعبي والنقاش العام ومتطلبات التغيير التي تتناسب مع الأبعاد الاستراتيجية بعيدة المدى لهذه المواجهة.

ومن أجل الإسهام الأولي في هذا النقاش أرى ضرورة التوقف والإشارة لعدد من النقاط التي تحتاج لمزيد من الدراسة والحوار للبناء على ما أفرزته هذه المواجهات من معطيات. وأبرزها:

أولًا: سقوط رهان الطرف الاسرائيلي وحلفائه بتمزيق وحدة الشعب الفلسطيني، وبما يمكّنها من الانقضاض على إنجازاته وتصفية حقوقه، فسرعان ما اتضحت ملامح أهداف العدوانية الاسرائيلية على القدس المحتلة ومقدساتها، والتي اعتبرها الفلسطينيون محاولة واضحة لاستكمال حرب النكبة والتطهير العرقي، كمعركة وجودية وحّدت الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته، كلٌ بما يمتلكه من طاقاتٍ متنوعة تكاملت في إطار المعركة الشاملة بكل أبعادها، انطلاقًا من القدس والداخل المحتل، وانضمت لها جماهير شعبنا في الضفة وغزة بوحدة ميدانية وصلابة كفاحية غير مسبوقتين لمواجهة وإسقاط أهداف الغطرسة العنصرية التي كشفت عن أنيابها في محاولة لترسيم وعد ترامب المشؤوم واقعيًا على الأرض، الأمر الذي كشف مأزق وهْم السياسة الاسرائيلية في تمزيق الكيانية الوطنية ودفع غزة للانفصال، دون أن يتخلى نتانياهو وزمرته عن هذا المخطط لدفن أي إمكانية لولادة كيانية تعيد للوطنية الجامعة مكانتها ولغزة دورها كرافعة أساسية في قلبها.

ثانيًا: بغضّ النظر عن مدى توافق أو تباين الفلسطينيين إزاء مدى نجاعة الصواريخ في ردع العدوانية العسكرية الاسرائيلية، أو مدى القدرة على ضبط التكامل بين متطلبات المواجهة في ظروف تباين واقع التجمعات الفلسطينية، ولمصلحة وحدة المعركة، فقد وضع الفلسطينيون هذا التباين جانبًا، ونهضوا موحَّدين ضد العدوان الاسرائيلي الذي كان واضحًا أنه يستهدف تركيعهم كشعب، وتصفية حقوقهم الوطنية التاريخية، أكثر مما يستهدف القدرة الصاروخية والعسكرية للمقاومة.

ثالثًا: أظهرت المقاومة درجة عالية من التماسك والقدرة على إدارة المعركة، ترافقت مع حالة إجماع شعبي على كسر صلف العدوانية الاسرائيلية ومنعها من تحقيق أهدافها، وقد برز ذلك في الجاهزية العالية من قبل الأغلبية الساحقة لأهلنا في قطاع غزة، واستعدادها لتحمل ألم الخسائر البشرية والمادية واستمرار الالتفاف حول المقاومة، أملًا في الخلاص من وجع سرطان الحصار الذي رهن حياة الغزيين في "غرفة إنعاش لا تدعهم يموتون، ولا تسمح لهم بالتعافي"، سيما بعد تبدُّد أمل تغيير هذا الواقع عبر الانتخاب، فكسبوا بذلك رهان القدرة على الصمود في سبيل استعادة الأمل لمنع انتصار "حرب كيّ الوعي"، التي تمارسها اسرائيل منذ سنوات، وهي تسعى لفرض شروط الاستسلام التي توجَّتها بخطة ترامب- نتانياهو التصفوية وحلقتها المركزية تمزيق الكيانية الوطنية ودفع غزة نحو الانفصال النهائي تحت وهْم أن ذلك يشكّل حلًا "لمأساة غزة الإنسانية".

رابعًا: أظهرت هذه المواجهة قدرة وإرادة الشعب الفلسطيني على عزل ومُحاصرة الانقسام في الطوابق العليا، من خلال الالتفاف الشامل حول القدس، والوحدة في مواجهة العدوان على غزة، وإن لم يتمكن حتى الآن من احتواء هذا الانقسام والتغلّب على مجمل تداعياته ومخاطره، الأمر الذي يطرح السؤال المركزي والمهمة المباشرة التي لا يتقدم عليها شيء، وهي ماهيّة السبل والأسس التي تُمكّن من تحويل الوحدة الميدانية التي أظهرها الشعب بكل مكوناته وتجمعاته إلى وحدة وطنية مؤسسية راسخة قائمة على استيعاب المتغيرات التي أبرزتها هذه المواجهة ودلالاتها، الأمر الذي يُمكّن من تعميق استمرارية الهبّة الجماهيرية وتطويرها، وفتح الباب أمام إنجازات سياسية مترابطة في خدمة إنجاز الحقوق الوطنية، بما يتطلبه ذلك من قراءة لهذه الإنجازات والتعامل معها كلحقة من سلسلة ما زالت طويلة ومعقدّة لتغيير ميزان القوى في معركة الصراع مع الاحتلال، وليس باعتبارها إنجازًا فئويًا يتم التعاطي معه كأداة إضافية في إطار توازن القوى الداخلي في الصراع على السلطة الذي شكّل، وما زال يُشكل، الجذر الخبيث للانقسام والمطلوب اجتثاثه.

خامسًا: أظهرت المواجهة أن وحدة الشعب الفلسطيني كفيلة بتوليد قدرة هائلة على الصمود، تمكّنت وبسرعة فائقة من استعادة زخم تضامن شعوب العالم مع حقوق شعبنا في مواجهة سياسات الاحتلال ومضمونها الاستعماري العنصري ومحاولات التطهير العرقي. وقد تعاملت قوى العدالة والحرية ومناهضة العنصرية مع هذا الصراع المزمن كمكوّن جوهري في الاصطفاف الكوني من أجل قيم العدالة والحرية والمساواة، بما يضيف معادلًا هامًا في ميزان الصراع مع عنصرية الاحتلال، الأمر الذي أعاد قضيتنا الوطنية على رأس جدول الاهتمام الدولي بعد أن كانت مغيبة بالكامل، وربما يستهدف في بعض جوانبه، التي ما زالت منحازة لإسرائيل، خطر تفريغ هذا المتغير من مضامينه وأبعاد التحولات التي طرأت عليه.

سادسًا: أظهرت هذه المواجهة الفجوة الهائلة بين إرادة الناس ووحدتهم، وبين هشاشة الإدارة السياسية للنظام السياسي المتآكل، بفعل سياسات التفرد الانقسامية، وإصرار القوى المهيمنة على المشهد العام على عدم المراجعة، سيّما لجهة التمسك بأطواق أوسلو والتزاماته رغم سقوطه الذريع على مدار السنوات العشرين الماضية منذ فشل كامب ديڤيد واندلاع الانتفاضة الثانية، وقد أثارت هذه الفجوة ضرورة التصدّي الفوري لمعالجة هذا الخلل الفاضح الذي لا يُهدّد النظام السياسي بالانهيار فحسب، بل وقد يمسّ بإنجازات شعبنا بما في ذلك ما حققته هذه المواجهة، ومحاولات تفريغ مضمونها وفي مقدمتها الوحدة الشاملة التي تأسّست في ميدان المواجهة والاشتباك مع مخططات الاحتلال. نعم، لقد أظهرت هذه المواجهة إرادة شعبية شاملة لتجاوز أطواق أوسلو التي استهدفت تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني بهدف الانقضاض على كامل حقوقه الوطنية، وما يتطلبه هذا الأمر من ضرورة البحث الجدّي لبلورة صيغ تعكس هذه الوحدة الجامعة وبما يشمل أبناء شعبنا في الداخل المحتل عام 1948، تأكيدًا على الهويّة الوطنية الجامعة المستهدفة بالتمزيق.

إنّ هذه المؤشرات الأولية والتي ربما تُشكل عناوين لنقاش هادئ قد يُساهم في فحص نقاط القوة والضعف التي برزت في هذه المواجهة والهبّة المستمرة، وبما يُمكّن من بناء استراتيجية عمل موحدة تقوم على الإقرار بالتعددية في الرؤى السياسية والفكرية، وعلى أساس وحدة القرار في إطار المؤسسات الوطنية الجامعة وفق الأسس التالية:

1. تحصين القرار الوطني بتشكيل قيادة وطنية موحدة على الصعيدين الميداني والسياسي، مهمتها الأساسية توفير مقومات استمرار وتطوير كل أشكال المقاومة الشعبية وإعادة بناء المؤسسات الوطنية بدءًا بمؤسسات منظمة التحرير وبما يعيد الاعتبار لطابعها الائتلافي كحركة تحرر وطني، بعيدًا عن كل أشكال التفرد والهيمنة والمحاصصة الانقسامية، والإسراع في عقد مجلس وطني توحيدي وفق الأسس التي أقرّتها اللجنة التحضيرية في بيروت "يناير 2017" والتوافق مع الأطر التمثيلية لأهلنا في الداخل المحتل عام 48 على صيغة مرنة تضمن مشاركتهم في صنع القرار الوطني العام.

2. تشكيل حكومة وحدة وإنقاذ وطني مهمتها الأساسية تعزيز صمود شعبنا والبدء الفوري باستنهاض كامل طاقات شعبنا لإعادة إعمار القطاع، وفي معركة البناء الديمقراطي والتحرر الوطني، بإطلاق الحريّات العامة وترسيخ أسس العدالة والمساواة، والتوزيع العادل للموارد ولأعباء مواجهة الاحتلال، وما يستدعيه ذلك بأن يرتكز بيان تشكيلها وبرنامج عملها على إلغاء كافة القرارات الإدارية والمالية بحق أهلنا في القطاع، وتلك التي مسّت بالحريّات واستقلالية القضاء، والتمييز بين أبناء الوطن، ومحاربة جذرية لكل أشكال الفساد والمحسوبية والتعدّي على المال العام، وإحداث تغيير جوهري في العقيدة الأمنية لجهة أن تصبح الأولوية لحماية أمن المواطنين، وما يتطلبه ذلك من إعادة بناء وهيكلة المؤسسة الأمنية وفق أسس مهنية وطنية ترتكز على المواطنة، وإلغاء أي التزامات أمنية خارجية تمسّ بحقوق ومصالح شعبنا بما في ذلك حقه الطبيعي في مواجهة مخططات ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية وتهويد أرضه ومقدساته.

3. الالتزام بإجراء انتخابات عامة متزامنة رئاسية وبرلمانية وللمجلس الوطني خلال مدة لا تتجاوز عام، ينبثق عنها هيئات تنفيذية موحدة لتحمل المسؤولية في إدارة الشأن الوطني والحكومي.

وأما على الصعيد السياسي، فلقد آن الأوان الإعلان وبكل وضوح أن الشعب الفلسطيني لن يعود لدوامة المفاوضات العبثية التي مكّنت اسرائيل من نهب الأرض والتجرؤ على الاعتقاد بأنها باتت قادرة على تصفية الحقوق، والتأكيد على أن الإجماع الوطني الفلسطيني يرتكز على حقوقنا الوطنية دون انتقاص خاصةً حقه في العودة وتقرير المصير لكل الفلسطينيين، وعلى العالم الذي يريد الأمن والاستقرار والسلام في الشرق الأوسط أن يدرك بأن القضية الفلسطينية هي مفتاح الحل لجميع هذه القضايا، وعليه أن يمارس نفوذه على دولة الاحتلال والتمييز العنصري للإقرار بهذه الحقوق قبل الحديث عن أيّة تسويات سياسية، وأن المفاوضات هي لجدولة تنفيذ هذه الحقوق وليس التفاوض عليها.

وفي هذا السياق، لا بد أيضًا من الحذر الشديد من مبالغات البعض الذين ينجرفون بالدعوة نحو ما يسمى "بالفرز"، والذي يشكل الوجه الآخر للتخاذل، فكلا الموقفين يتجاهل القوة الهائلة للوحدة الوطنية التي أدركها ويدركها مناضلي الميدان بصورة خاصة، وأن التغيير لا يمكن أن يتم سوى بالوسائل الديمقراطية التي ترتبط عضويًا بمدى القدرة على النهوض بالمهام والتحديات الوطنية، ولحين ذلك لا بد من تغيير فضاء العمل السياسي بتوحيد الكل الوطني في بوتقة جامعة. غير ذلك سيكون ترك الأمور على حالها نحو مزيد من الانقسام، وربما الانزلاق نحو حالة من الصدام والعنف الداخلي، والتي قد تُفضي لكارثة التمزق والانفصال التي تُشكّل جوهر المخطط الاسرائيلي