رغم قسوة مشاهد الموت والدمار، وآثار الحرب العميقة، في شتى الاتجاهات، سواء السلبية منها أو الإيجابية، إلا أننا كما هي العادة ننهي جولاتنا القتالية بالمهرجانات الخطابية واحتفالات النصر.. ونكتفي بها، دون إجراء عمليات تقييم ومراجعة وتقدير موقف.
الاحتفالات بحد ذاتها ليست خطأ، فهي ضرورية للتعبئة ورفع المعنويات، المشكلة أنها تصبح البديل عن النقد الذاتي وإعادة التقييم، ونعمّق المشكلة أكثر عندما نرفض النقد، ونحارب أي رأي مخالف.. بل إن المشكلة في الأساس أننا نخوض تجاربنا السياسية والعسكرية دون إستراتيجية مسبقة، ودون تخطيط، أو تقدير موقف أولي، فتكون عبارة عن ردود أفعال آنية، وأحياناً ارتجالية.. هذا هو حالنا منذ قرن.. مررنا بتجارب وتحولات خطيرة وعميقة.. ولم نجلس مرة واحدة للمكاشفة والمحاسبة والنقد الذاتي.. إلا في سياق المناكفات وتبادل الاتهامات، وفي أحسن الأحوال على شكل ورشات عمل وعصف ذهني ودراسات بحثية يجريها أفراد أو مراكز أبحاث، أو تأتي على هامش المؤتمرات الحزبية، لكنها لم تكن نهجاً معتمداً.. بل إن العقلية السائدة (حزبياً وشعبياً) التشكيك بأي رأي نقدي، واتهام صاحبه، والتعامل معه كجهة معادية.
كما أن الناس صارت لا تحب أن تسمع أو تقرأ إلا لمن يشبهها، وبالأخص الذي يتغنون بالانتصارات، ويمجدون الشهادة والتضحيات، ويتحدثون عن إسرائيل كما لو أنها ستنتهي في غضون أسابيع، لولا الانبطاحيين والانهزاميين.. ومرة ثانية أؤكد أن هذا الطرح مفيد فقط في التعبئة الوطنية وشحذ الهمم.. لكنه بالمبالغات والتهويل واللغة العاطفية، ودون نقد وتفكير عقلاني سيكون عبارة عن تضليل، وسيصير وبالاً وكارثة، لنكرر الأخطاء ذاتها، ونبقى في المربع الأول.
لستُ مؤهلاً للتقييم، وإصدار الأحكام، لكني سأطرح بعض الأسئلة:
هل كانت الحرب فقط نصرةً للقدس، أم أتت في سياق الصراع الإقليمي؟ بالذات فيما يخص الملف النووي الإيراني؟ ومبررات هذا التساؤل ما يلي:
بدأت الحرب مع بدء مفاوضات إيران مع وكالة الطاقة الذرية في فينا، ومباحثاتها مع أميركا بشأن رفع العقوبات، وانتهت مع انتهاء المفاوضات، هذا أولاً.. وثانياً: استفادت إيران بانشغال العالم بالحرب، واستفادت أميركا بإشغال إسرائيل ومعها اللوبي الصهيوني بالحرب، حيث إنها لم تتخذ موقفا صلبا وواضحا لوقفها إلا في أيامها الأخيرة، وظلت تماطل وتمهل إسرائيل لإنجاز مهمتها. وثالثاً: كانت إيران تفاوض وفي جعبتها قوة إضافية تتمثل في تهديد أمن إسرائيل من خلال حلفائها.. ورابعاً: رسائل الشكر على لسان إسماعيل هنية وخالد مشعل وأبو عبيدة لإيران (وسورية) على الدعم المالي والعسكري، كنوع من رد الجميل، والتذكير بأهمية ما قامت به حماس.. وهذا يذكرنا بحرب تموز 2006، والتي أصرت أميركا حينها على إطالة أمدها، ليتسنى لها مراقبة قدرات الطرفين، كاختبار أولي لأي حرب محتملة في المستقبل مع إيران (أو مع غيرها).. وهذا الأمر كان يتكرر في الحروب الأربع الماضية؛ أي اختبار القبة الحديدية، وقدرات إسرائيل على التحمل، واختبار قدرات صواريخ المقاومة، ومدى تأثيرها.
قد يكون توقيت الحرب مع بدء المفاوضات مجرد مصادفة، أما مسألة إيعاز إيران لـ «حماس» و»الجهاد» ببدء الحرب فيحتاج أدلة قاطعة، أو اعتراف أحد الطرفين، ولا يكفي الاستنتاج.. لكن علاقة قوى المقاومة في غزة بإيران معروفة، ولا ينكرها أحد.. والتحالفات السياسية تقوم أساسا على تبادل المصالح، والطرف الأضعف هو الذي يستجيب أكثر لمصالح الطرف الأقوى.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر؛ لماذا هذه المرة بالذات استجابت «حماس» لنداء القدس؟ علماً أن اقتحامات الأقصى واستفزازات المستوطنين، ومسيراتهم بحجة الهيكل تتم بشكل شبه يومي، ومنذ زمن بعيد، كما أن عمليات التهجير القسري وهدم البيوت لم تتوقف يوما في القدس، ولم تكن ردة فعل حماس بهذه القوة؟ وشهدنا في مرات سابقة هبات شعبية مقدسية، كما حصل في هبة البوابات الإلكترونية.
ذكرتُ في مقالة سابقة أن هبة القدس هي التي ألهمت الجماهير الفلسطينية في كل فلسطين، وفجرت طاقاتهم النضالية، وبالتالي لا بد وأنها ألهمت قوى المقاومة في غزة، ما دفعها لإطلاق حرب الصواريخ نصرة للقدس.. ولكن هذا يقودنا إلى جملة أسئلة إضافية: هل الصواريخ هي الشكل الوحيد والصحيح للرد؟ هل يحق لحماس (وأي فصيل آخر) أخذ الشعب إلى حرب طاحنة، دون توافق وطني أولاً، ودون أن يسبقها استعدادات وتجهيزات على الأقل فيما يتعلق بالمدنيين؟ وهل من الصحيح تحويل هبة جماهيرية على وشك التحول إلى انتفاضة شاملة إلى حرب نظامية بين جيشين؟ وهذا ما ظهر للعالم: صواريخ مقابل صواريخ، وقصف مقابل قصف! فهل هذا التحول نحو الحرب الصاروخية سيعزز فرص قيام انتفاضة شعبية، وسيرسخ انتقال فلسطينيي الداخل إلى قلب العملية الوطنية الفلسطينية أم أنه سيؤدي إلى كبح ذلك؟ علماً أنّ هدف المقاومة وغايتها أن تؤدي إلى إضعاف جبهة العدو أو استنزافها، وليس العكس، أي إضعاف الشعب واستنزافه، حيث أن غزة الآن منهكة لدرجة تفوق التصور. (سبق للصديق الباحث ماجد كيالي أن طرح هذه التساؤلات).
يقول البعض إن هدف «حماس» كان خدمة الأجندات الإيرانية، وآخرون يقولون إن غايتها سحب البساط من تحت السلطة، والاستفادة من أخطاء أبو مازن، وإقصاء «فتح» عن المشهد، مستغلة ضعفها وارتباكها وتأخرها في الرد، وآخرون يقولون إن هدفها استعادة شعبيتها بعد أن تآكلت خلال سنوات حكمها القاسية للقطاع، ولاستعادة دورها في إطار مشروع الإخوان المسلمين العالمي.. وآخرون يؤكدون أن هدفها كان وطنيا بامتياز.. وهذه وجهات نظر تحتاج نقاشاً وليس اتهامات.
«حماس» أبلت بلاءً حسناً في المعركة، لكن العبرة في النتائج، ولتثبيت انتصارها، وجعله في سياق النضال الوطني العام، ولتبرهن أنها حركة وطنية فلسطينية، وليست مجرد حزب إسلامي، عليها أن تترفع عن الحزبية والخطاب الفئوي، والإدعاء باحتكار الكفاح الوطني، وأن التاريخ الفلسطيني بدأ معها فقط.. وما لم نرتق جميعاً إلى مستوى الحدث، ونعزز وحدتنا الوطنية، ونواصل المقاومة الشعبية، ونطور خطابنا السياسي المقاوم، وما لم نتجنب حرف البوصلة باتجاه الصراعات الداخلية؛ فإن النتيجة ستكون كالحروب السابقة، أو في أحسن الأحوال الاعتراف بشرعية «حماس» كسلطة في غزة، مع تكريس فصلها عن الضفة.
ثمة أسئلة أخرى تتعلق بأثر الحرب على مستقبل التسوية، وعن دور «فتح»، ولماذا تأخرت، وتراجعت عن دورها الريادي؟ وعن إمكانية تطوير انتفاضة، وعن فلسطينيي الداخل.