معادلة النصر والهزيمة في كل الحروب وكل المعارك وحساباتها أعقد بكثير من الحسابات الإعلامية، وأدقّ بما لا يقاس من هذه الحسابات الاستعراضية، وأبعد من الأوصاف الصحافية لهذه المعادلة.
لا يتعلق الأمر هنا بالخصوصية الفلسطينية لهذه الحسابات، لأن هذه المعادلة تنطبق في الواقع على كل معادلة الحروب في أي مكان أو زمان.
وإذا ما كان من خصوصية فلسطينية لهذه الحرب بالذات، فهي تتعلق أولاً وقبل كل شيء بالإجابة عن السؤال التالي:
ماذا لو أدّى هذا "النصر" إلى تبديد وحدة الشعب والقضية، وماذا لو أدّى هذا النصر بالذات إلى تكريس وتعميق الانقسام؟ بأي معنى يمكننا في مثل هذه الحالة الحديث عن نصر من أيّ نوع كان، وبأي معنى نكون قد انتصرنا، وما هو دليلنا على هذا النصر؟
وإذا كنّا قد هُزمنا في الواقع ـ على سبيل الافتراض فقط، وكان من نتائج هذه الهزيمة أن التحمنا بقوة من جديد، وأنهينا الانقسام، وأعدنا بناء النظام السياسي، وحافظنا على صمودنا الذي لا شك فيه ـ على الحالتين ـ واستثمرنا بشكل موحد وتشاركي الظروف الجديدة التي تولدت عن هذه الحرب نحو حالة سياسية فعالة، تساهم بصورة حقيقية في إحداث نقلة نوعية باتجاه حقوقنا الوطنية، وباتجاه إنجازها على الأرض... فهل نكون قد هُزمنا؟، وبأي معنى تمت هذه الهزيمة؟ وما هو دليلنا على "هزيمة" كهذه؟ لذلك نحن صمدنا، وقاومنا وتوحّدنا، نعم، ولكننا لم ننتصر بعد، ولم نهزم بعد.
فبقدر ما يوجد، اليوم، خطاب وحدوي مسؤول، وروح فلسطينية وحدوية غير مسبوقة بين تجمعات شعبنا، وبقدر ما تدور في دواخلنا عواطف ومشاعر عالية بالفخر والاعتزاز بكل ما أنجزناه، وبكل ما استطعنا ان نحققه من إنجازات ذات طابع تاريخي ونوعي بكل الأبعاد، فإن لدينا بالمقابل بدايات خطاب أو خطابات تنعق في سماء هذا الفضاء الفلسطيني المفعم بالكرامة والجدارة، وتطل برأسها من بين شقوق جدارنا العالي.
صحيح، أن صوتنا العالي والذي يصرخ فينا، ويستصرخنا للحفاظ على هذا الزخم الفلسطيني المبهر ما زال صاخباً، وصحيح أن الخطاب أو الخطابات الناعقة ما زالت خافتة الصوت حتى الآن، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الأصوات الناعقة، وبالاستناد الى تجارب حسية سابقة، معاشة ومجرّبة يمكن ان تتقدم بخطوات كثيرة وكبيرة الى الأمام، ويمكن ان "تفحج" في أي لحظة للصفوف الأمامية لتحتل الساحة والمحراب، وقبل أن يتمكن الناس الذين تعزّ عليهم قضية الوطن، وقبل أن ينتصر الناس الذين صمدوا وضحّوا والتحموا وتوحّدوا، وقبل ان يعرفوا كيف يدافعون عن صمودهم ووحدتهم، وقبل أن يجهزوا أنفسهم لمعركة قاسية قادمة في مواجهة خطابات التنافسية الفئوية، وخطابات الاستئثار والاحتكار، وسرعة جني الثمار فإن النصر مؤجل والهزيمة مؤجلة، أيضاً.
كيف للعقل الوطني الفلسطيني أن يقبل ويتقبل هذه "المعركة" التي فتحت حول (من سيتولى مسؤولية الإعمار) قبل أن نحصي البيوت المدمّرة بدقة وقبل أن تجف دماء الأحباء ممن فقدناهم وما زلنا نفقدهم في كل يوم؟
ثم كيف لنا أن نفهم او نتفهم الاستحضار "العاجل" للغة التشكيك والتخوين والتكفير والتطبيل والتزمير؟ قبل أن نعرف مصير تدنيس الأقصى، واقتلاع الشيخ جرّاح، ومسلسل سلوان القادم على جدول الأعمال، وقبل أن نعرف بالخطط الجهنمية التي أعدتها وباشرت بها أجهزة الأمن الإسرائيلية لمئات وآلاف من شبابنا وشاباتنا في الداخل الفلسطيني البطل، وما تهدف إليه إسرائيل من "استفراد" بهم ومن إرعاب لهم، ومن هجمة شاملة وشرسة عليهم؟
وما هي هذه القضية "المصيرية والوجودية" التي اسمها "من يتولّى إعمار غزة؟"، ومن قال، إن الشعب الفلسطيني لا ينام ليلاً حتى يعرف من سيتولّى إعمار غزة؟
وهناك من يرى أن حرب الصواريخ هي فجر الشعب والأمة، وكل البطولات والتضحيات وخروج الملايين من شعبنا ليس له قيمة فعلية قبل الصواريخ، وهناك من لا يريد أن يفهم أن الصواريخ ـ هذه المرة على الأقل ـ لم تكن فئوية تماماً، وأنها حققت الكثير بصرف النظر عن وجود أو إمكانية وجود الاعتبارات الفئوية من خلفها.
المشكلة هنا هو ان القوى السياسية نفسها أو من خلال خطاب وحدوي وعقلاني متزن ومتوازن تستطيع أن تعيد للناس ثقتهم بمشروعهم، وأن تبث فيهم روح المسؤولية والكرامة، وأن تقوي من عزيمتهم وتضاعف إرادتهم.
هل يصعب على شعبنا، اليوم قبل الغد، أن يشكل حكومة وطنية بمشاركة الجميع، بحيث تتولى حكومة كهذه شؤون البلاد والعباد، وبحيث وبالتوازي، ومن على نفس الأرضية والمنطلق أن يبدأ حوار وطني بمشاركة الجميع لرسم معالم السير الفلسطيني في ضوء ما تحقق، وفي ضوء ما استجدّ، وفي ضوء ما بات ملحّاً وراهناً وعاجلاً ولم يعد يقبل التأخير...؟
هل أصبح صعباً على شعب قدم كل هذه التضحيات، وأبدى كل هذه العزيمة والوفاء أن يفرض مفرداته ولغته ومفاهيمه وتطلعاته على الجميع دون استثناء؟
الذي أراه أن خطاب التنافسية المريضة لن يربح المعركة، وان هذا الخطاب سيتلاشى ويغادر ميدان الصراع بقدر ما تكون تجمعات شعبنا في كل مكان مجيّشة لقضية الوحدة، ومعبّأة ومنظمة لمواجهة المشروع الصهيوني، وقادرة على إسناد الحق الفلسطيني والمعارك السياسية بإرادة واحدة وموحّدة.
لهذا فإن من المبكّر الحديث عن النصر أو الهزيمة حتى نرى ونعمل، لكي لا يتحول النصر إلى هزيمة، أو لنعرف كيف نصنع من بعض ذيول الهزيمة طريقاً للنصر، وقاعدة انطلاق جديدة نحو الانتصار الأكبر.