منذ عام النكبة وما قبلها ابتدع الفلسطينيون وسائل نضالية متنوعة لم تخطر على بال أحد لإسماع صوتهم والاعتراف الدولي بحقوقهم المشروعة، في الوقت الذي يضغط فيه الاحتلال الإسرائيلي ويستميت بقوة لإسكات الصوت الفلسطيني باستخدام أدوات إكراهية تمنعهم عن المطالبة بحقوقهم.
مع توسع استخدام الشبكة العنكبوتية «الانترنت» وتنوع وسائل التواصل والمنصات الرقمية على مستوى العالم، أخذ الفلسطينيون يدرسون ويستوعبون أهمية «السوشيال ميديا» في دعم قضيتهم ومسيرتهم التحررية، وفي مد جسور من التواصل مع العالم لتحديد موقعهم من الإعراب على خارطة العالم.
قبل دخول «السوشيال ميديا» على خط الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، سعى الفلسطينيون إلى ترجمة الثقافة والهوية في صراعهم مع المحتل، وتجسّدت رسالتهم في التعبير عن حقوقهم بالصوت والصورة والأغنية والفولكلور الشعبي وحتى في «صحن الحمص» وقرص «الفلافل» وشجرة الزيتون التي تؤكد عمق هويتهم ورسوخها على أرضهم فلسطين.
الرسالة الثقافية أخذت أشكالاً كثيرة واستطاع خلالها الفلسطينيون إيصال صوتهم إلى المجتمع الدولي، على الرغم من الإمكانيات المادية والرسائل التعبوية التحريضية التي يزيفها الاحتلال لكسب المجتمع الدولي في صفه، إلى جانب دعم «الماكينة» الإعلامية الغربية لإسرائيل.
«السوشيال ميديا» كانت واحدة من أهم ساحات الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي في حرب العام 2014، إذ على سبيل المثال، لم يكن للصوت الفلسطيني أن يصل إلى العالم ويوثق مجموع الفظائع والمجازر التي ارتكبت في قطاع غزة، لولا تدخل «السوشيال ميديا» بقوة على ساحة الحرب وفضح إسرائيل بالصور والقصص والرسومات الكاريكاتيرية المعبّرة.
هذا السلاح المهم والفعّال أضعف إسرائيل في حرب 2014 كما أضعفها في الحرب الأخيرة التي شنتها على قطاع غزة والضفة الغربية بعد أحداث الشيخ جراح، والحقيقة أن الفلسطينيين وخصوصاً الشباب، وُفقوا في استخدام المنصات الاجتماعية الرقمية لنقل محتوى «دسم» ومعبّر كثيراً عن ما يجري من انتهاك إسرائيلي خطير لحقوقهم.
لقد وضعت «السوشيال ميديا» ما يجري في فلسطين المحتلة تحت الضوء مباشرة، إلى درجة أن الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تفضل الابتعاد عن الملف الفلسطيني في أيام الرئيس الحالي بايدن، أرغمت على العودة إلى هذا الملف والضغط على رئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته بنيامين نتنياهو لوقف العدوان والقبول بتهدئة متبادلة مع الفصائل الفلسطينية.
كل هذا ترجمه الوعي الفلسطيني في مسألة الاشتباك مع الاحتلال إلكترونياً، علماً أن هناك تمييزاً في المحتوى الرقمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين من مثل إغلاق حسابات من قبل مواقع مشهورة مثل «فيسبوك» و»أنستغرام» و»تويتر» لنشطاء فلسطينيين بدعوى مخالفتهم سياسات النشر الإلكتروني لتلك المواقع. كما تعرضت حسابات الآلاف من العرب لعقوبات مختلفة من قبل إدارات هذه المواقع.
وعلى الرغم من هذا التضييق يجد الفلسطيني «السوشليست» طرقاً أخرى لنشر المحتوى الرقمي باستخدام مفردات ومصطلحات تمر على الأنظمة والبرمجيات للمواقع الإلكترونية دون ضجيج، فضلاً عن توجيه المحتوى الرقمي إلى مواقع أخرى مثل الموقع الصيني المشهور «تيك توك» الذي يبث مقاطع مرئية محدودة الوقت.
كذلك من المهم الإشارة إلى مضمون المحتوى الرقمي، حيث يلحظ وعي الشباب الفلسطيني المتنامي لقضية «تدسيم» المحتوى الرقمي وتكثيفه في صور معبرة أو كلمات مقتضبة وحتى في مقاطع «فيديو» عميقة الأثر، وهذه الرسائل المؤثرة وصل إحساسها إلى العالم في العدوان الإسرائيلي الأخير.
إلى جانب كل ذلك، أحدث التفاعل الرقمي حالة تجييش وتعبئة في صفوف الفلسطينيين في الداخل والخارج، وعكس اصطفافهم في خندق واحد وبث الروح الوطنية والحماسية العالية فيهم، وأيضاً فتح المحتوى الرقمي الفلسطيني الباب أمام استقطاب أصوات جديدة تدعم القضية الفلسطينية حتى من الأميركيين واليهود الذين يدعمون إسرائيل.
في الحرب الإسرائيلية الأخيرة كما في كل الحروب التي شنتها من قبل، هناك رواية ورواية مضادة، واحدة حقيقية وأخرى مزيفة، وهذا يحدث بالضبط مع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، حيث تجد «الماكينة» الإعلامية الإسرائيلية تروج للمحرقة التي عانوا منها طوال سنوات الحرب العالمية الثانية بأنها تشكل دافعاً للحفاظ على دولتهم ونقائها اليهودي واستمرارها.
تعاطف المجتمع الدولي مع إسرائيل آنذاك ارتبط مع الدعم الكبير الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا لقيام الدولة العبرية ومساعدتها في تزييف الوعي تحت شعارات كاذبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، و»الكبار يموتون والصغار ينسون».
غير أن النضال الفلسطيني المستمر وتوثيق النكبات السابقة والمتتالية يعيد صياغة مشهد التعاطف الدولي مع إسرائيل وفزاعة احتياجاتها الأمنية، وليست ساحة «السوشيال ميديا» أقل أهمية من المقاومة المشروعة، ذلك أنها أداة فعّالة ومُكمّلة لأي جهد فلسطيني وفكر خلاّق يقرب الفلسطينيين من تحصيل حقوقهم الوطنية.
عدوان 2014 حقّق فيه الفلسطينيون تفوقاً على إسرائيل ارتباطاً بالأدوات والإمكانيات التي يمتلكونها، وتطور هذا الوعي شيئاً فشيئاً وانتصروا أيضاً على الاحتلال في عدوان أيار 2021، ومع الوقت سيفهم العالم أن للفلسطينيين حقوقاً مشروعة وهم بحاجة إلى تقرير مصيرهم كما هو حال باقي الشعوب وحركات التحرر التي ناضلت من أجل الاستقلال.
Hokal79@hotmail.com