أعتقد أنه من الضروري لكل من يتعامل أو يتابع موقف الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية أن يكون أكثر واقعية، ولا يرتفع سقف طموحاته وتوقعاته إلى مدى بعيد يتعلق بإمكانيات وقدرات الولايات المتحدة في الضغط على إسرائيل بشأن عملية السلام في أي وقت، وذلك من منطلق أن هناك تعهدًا أمريكيًا ثابتًا لم ولن يتغير بالالتزام التام بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وأن أي اختلاف يمكن أن يظهر في وجهات النظرالأمريكية والإسرائيلية في هذا الشأن لا يمكن أن يؤثر على جوهر هذه العلاقة التي يمكن توصيفها بأنها أكثر من استراتيجية.
ولا شك أن هذا الفهم سوف يساعدنا كثيرًا في مجال التعرف بصورة عملية على الحدود الدنيا والقصوى بالنسبة للموقف الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية حتى نكون على بينة بالنسبة إلى أي حد يمكن لنا الاعتماد على الإدارة الأمريكية، ومدى قدرتها على أن تتحرك بالفاعلية التي نأملها في هذا الملف المعقد الممتد، كما أن هذا الفهم يمنحنا رؤية أفضل تجاه كيفية قيام الدول العربية والفلسطينيين بمساعدة الإدارة الأمريكية حتى لا تعمل أو تتحرك بمفردها بينما نحن ننتظر نتائج هذا التحرك.
من الإنصاف أن نحسب للإدارة الأمريكية الديمقراطية الحالية أنها أسقطت “صفقة القرن” من أجندتها، تلك الصفقة الأمريكية الإسرائيلية التي طرحها الرئيس السابق “دونالد ترامب” في حضور “نتنياهو” في يناير 2020، والتي يمكن أن أطلق عليها باختصار خطة تصفية القضية الفلسطينية. ويكفي أن نتذكر أن هذه الصفقة تتيح لإسرائيل ضم حوالي ثلث الضفة الغربية، وفرض سيادتها على منطقة غور الأردن، بالإضافة إلى تحديد مجموعة من المبادئ المجحفة التي تلغي حق العودة، وتُنهي قضية القدس، وتعطي الأولوية للأمن الإسرائيلي في كل ما يتعلق بالتعامل مع الدويلة الفلسطينية المقترحة والمنقوصة السيادة والمتقطعة الأوصال كما رسمتها “صفقة القرن”.
كما يُحسب للإدارة الأمريكية أنها بذلت جهدًا ملموسًا في التحرك من أجل وقف إطلاق النار بين إسرائيل وقطاع غزة، مع الاعتماد -بالطبع- على الدور المصري المميز والحاسم في هذا الشأن، وهو ما أكّده بوضوح الرئيس “جو بايدن” في اتصاله مع السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي”، يومي 20 و24 من الشهر الجاري، وسوف يظل هذا الموقف والجهد المصري المبذول محل تقدير وامتنان كبير من الإدارة الأمريكية.
وفي مجال الحديث عن الجهد الأمريكي خلال الأحداث الأخيرة، يكفي أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أجرى بنفسه ست محادثات هاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” خلال فترة العمليات العسكرية، كما أرسل مبعوثًا سياسيًا للمساعدة في التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، وفي النهاية أرسل وزير خارجيته “أنتوني بلينكن” في مهمة عاجلة ومتعددة الجوانب إلى المنطقة.
ومن هذا المنطلق، من المهم أن نضع الزيارة السريعة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي للمنطقة خلال الأسبوع الماضي والتي التقى خلالها بقيادات كل من (إسرائيل – فلسطين – مصر – الأردن) في إطارها الصحيح والذي حددته واشنطن قبل الزيارة والمتمثل في دعم الأمن الإسرائيلي، وتثبيت وقف إطلاق النار، والمساعدة في إعادة الإعمار، ومواصلة إعادة بناء العلاقة الأمريكية مع السلطة الفلسطينية. وبالتالي، ليس من المنطق أن نحكم على زيارة “بلينكن” بأنها لم تؤدِّ إلى تحريك عملية السلام، حيث إن هذه المسألة لم تكن مدرجة على جدول أعمال الوزير الأمريكي. وفي تقديري أن زيارة “بلينكن” كانت خطوة مبدئية وهامة وسوف تكون لها نتائج ملموسة خلال المرحلة المقبلة.
وفي الوقت نفسه، يمكن القول إن القضية الفلسطينية أصبحت بالفعل ضمن أولويات الإدارة الأمريكية، وهذا أحد مكاسب الأحداث الأخيرة، كما أن هناك تحركات أمريكية جيدة في مجال إعادة التعامل مع السلطة الفلسطينية، حيث أجرى الرئيس الأمريكي اتصالًا بالرئيس “أبو مازن”، ثم التقى وزير الخارجية الأمريكي مع القيادة الفلسطينية في رام الله، وأكد اعتزام إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، واستئناف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية ووكالة غوث اللاجئين، ومن المتوقع أن تتخذ الإدارة الأمريكية إجراءات إيجابية أخرى خلال المرحلة المقبلة ومن بينها إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
ومن ناحية أخرى فإن الأمر الهام الذي يجب أن نشير إليه هنا أن الوزير الأمريكي “بلينكن” كان حريصًا على أن يؤكد في تصريحاته خلال جولته في المنطقة على مبدأ حل الدولتين تأكيدًا لموقف الإدارة الأمريكية في هذا الشأن، بل إنه كان حريصًا أيضًا على أن يؤكد ضرورة توفير المناخ الملائم من أجل التحرك مستقبلًا بالنسبة لعملية السلام، وخاصة معارضة واشنطن أية إجراءات يمكن أن تعوق التقدم نحو هذا الهدف، بما في ذلك سياسة الاستيطان الإسرائيلي وأعمال العنف والإرهاب وضم الأراضي، وهو ما يتوافق مع موقف إدارة الرئيس الأسبق “أوباما” التي اتّخذت قرارات غير مسبوقة في مجال رفض السياسة الإسرائيلية الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية.
والسؤال الذي يجب أن أطرحه هنا: هل يمكن أن نعيد الولايات المتحدة لتقوم بدورها الإيجابي السابق باعتبارها شريكًا كاملًا FULL PARTNER في عملية السلام في الشرق الأوسط وتقوم بنفس الدور الذي قامت به في التوصل إلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في مارس عام 1979، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في أكتوبر عام 1994، بالإضافة إلى بعض الجهود التي لم تتبلور نتائجها بصورة نهائية ومن بينها وديعة رابين الخاصة بالسلام الإسرائيلي مع سوريا عام 1994، وما يسمى بتفاهمات أولمرت لحل القضية الفلسطينية في سبتمبر عام 2007؟.
أعتقد أن تفعيل الدور الأمريكي يُعد التحدي الماثل أمامنا مع التسليم الكامل بأن هناك العديد من المتغيرات التي حدثت في المنطقة أو داخل الأراضي الفلسطينية وعلى المستوى الإسرائيلي الداخلي، والتي من شأنها أن تؤثر على هذا الدور الذي ننشده.
وهنا لا بد أن نتساءل: كيف لنا كعرب وفلسطينيين أن نساعد على تفعيل الدور الأمريكي خلال الفترة المقبلة؟ وكيف يمكن لنا أن نستثمر موقف الإدارة الحالية التي تتبنى عن قناعة مبدأ حل الدولتين في دفع القضية الفلسطينية إلى الأمام؟ بل وأصبحت هناك أصوات ديمقراطية مؤثرة تطالب بحل القضية الفلسطينية، وتبدي قدرًا من المعارضة للإجراءات الإسرائيلية التي تعوق عملية السلام. ولا بد أن أعترف بأن هذه الأسئلة لا تحتاج فقط إلى إجابات، بل تحتاج إلى جهد كبير وعمل متواصل.
وفي هذا المجال، أرى أن أي تحرك عربي-فلسطيني من المهم أن يأخذ في اعتباره النقاط الرئيسية التالية:
النقطة الأولى: أهمية تركيز كافة الجهود خلال الأيام المقبلة من أجل تثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل وقطاع غزة، حيث إن هذه هي الخطوة الأولى المطلوبة التي تُمهد الطريق أمام أي تحرك ناجح في الفترة المقبلة.
النقطة الثانية: ضرورة فصل مسألة إعادة الإعمار عن أية خلافات سياسية، حيث إن لدينا تجارب سابقة في مجال إعادة إعمار غزة لم تؤدِّ إلى نتائج (مؤتمر شرم الشيخ 2010 – مؤتمر القاهرة 2015)، ومن ثم فإنه يجب على المجتمع الدولي الإسراع بالبناء على الموقف الإيجابي الذي طرحه السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” بتقديم 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، وهذا هو المطلوب حتى نبدأ هذه العملية في أقرب وقت ممكن من أجل سكان القطاع الذين تعرضوا لأقصى درجات العنف والتدمير الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة.
النقطة الثالثة: أن مصر لا تزال هي الدولة المؤهلة لأن تقود عملية سياسية يتم الاتفاق على إطارها العام مع الأطراف المعنية الأخرى، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية والأردن، ثم ننطلق في تسويقها إقليميًا ودوليًا.
النقطة الرابعة: أن العملية السياسية المقترحة لا بد أن يكون لديها هدفان أساسيان؛ الهدف الأول تكتيكي وهو استئناف المفاوضات في أسرع وقت ممكن، والهدف الثاني استراتيجي ويتمثل في وضع مبدأ حل الدولتين موضع التنفيذ طبقًا للمفهوم الذي نعلمه جميعًا وهو دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على خطوط 1967 عاصمتها القدس الشرقية تعيش في سلام وأمن واستقرار بجوار دولة إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار أن كل ما سيتم التوصل إليه من خلال المفاوضات سوف يكون بالتوافق، ومن المؤكد أن أية عملية تفاوضية لا بد وأن تشهد مرونة متبادَلة.
النقطة الخامسة: هناك ضرورة لفتح قنوات اتصال عربية مباشرة ودائمة مع الإدارة الأمريكية من أجل تثبيت مبدأ حل الدولتين من ناحية، والتعرف عمليًا على مدى إمكانية تطبيق هذا المبدأ على الأرض من ناحية أخرى حتى لا ندخل في مفاوضات دون أن نعرف طبيعة الواقع الحالي على الأرض وكيف نعالجه.
النقطة السادسة: أهمية أن تكون لدينا رؤية سياسية واقعية وذات آليات عملية لحل القضية الفلسطينية ونكون قادرين على أن نتعامل بهذه الرؤية مع واشنطن ومع أية أطراف أخرى. والسؤال هنا: هل يكفي أن نعيد كل فترة تذكير العالم بأننا نمتلك مبادرة السلام العربية المطروحة منذ عشرين عامًا والحبيسة الأدراج منذ عقدين؟ أم أننا في حاجة إلى بلورة رؤية جديدة لا تُسقط الثوابت ولكنها تتعامل بمرونة مع المتغيرات الجديدة؟ وهنا فإني لا أدعو مطلقًا إلى القفز على مبادرة السلام العربية، ولكني أدعو إلى مجرد التفكير العملي في كيفية حل القضية المركزية العربية، لا سيما وأن قطار الاستيطان والتهويد للأرض الفلسطينية يسير بشكل متسارع وممنهج ومنتظم بينما المجتمع الدولي كله يتابع ويراقب ويعترض ويشجب.
النقطة السابعة: ضرورة أن نظل متمسكين بمبدأ حل الدولتين، حيث إن هذا هو المبدأ الذي يؤمن به العالم كله، وخاصة الإدارة الأمريكية الحالية، وبالتالي أعتقد أنه ليس من المطلوب تمامًا أن نخرج عن الإجماع الإقليمي والدولي، ونتحدث عن حل الدولة الواحدة المستحيل عمليًا أو أي حل آخر يخرج عن إطار حل الدولتين.
النقطة الثامنة: أهمية التواصل مع الجانب الإسرائيلي خلال الفترة القادمة، ليس فقط في مجال تثبيت التهدئة وعدم اتخاذ إجراءات أحادية خاصة مسألة تهجير سكان القدس، ولكن أيضًا من أجل أن ندفع إسرائيل إلى بدء العملية السياسية، لا سيما وأن العمليات الأخيرة أثبتت أن نظرية الأمن الإسرائيلي لا يمكن أن تحميها أية قدرات عسكرية مهما بلغت قوتها، وأن الضامن الوحيد للأمن الإسرائيلي بل ولاستقرار المنطقة كلها يتمثل في منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة والمعروفة.
النقطة التاسعة: أن إنهاء الانقسام الفلسطيني أصبح هو المدخل الوحيد لتغيير معادلة الوضع الفلسطيني الداخلي، وبدونه سيظل الفلسطينيون يعانون من ويلات الانقسام ولن تتقدم قضيتهم إلى الأمام، وعليهم أن يضربوا المثل في التوحد والقدرة على مخاطبة المجتمع الدولي من منطلق وحدة الموقف الفلسطيني، بما قد يتطلبه ذلك من وجود الحكومة الفلسطينية القوية المؤهلة للقيام بهذا الدور.
الخلاصة أن الحرب الأخيرة بكل إيجابياتها وسلبياتها أوجدت قوة دفع لا بد من استثمارها قبل أن تهدأ جذوتها، ومن المؤكد أن هناك مسئوليات تقع على الجانبين العربي والفلسطيني علينا أن ننفذها أولًا قبل أن ننتظر تحركًا أمريكيًا أو تنازلًا إسرائيليًا، حيث إنه بالقدر الذي ستكون هناك وحدة موقف عربي وفلسطيني، وأن تُسقط كافة الفصائل الفلسطينية مصالحها الحزبية من أجل تحقيق الهدف الأسمى وهو الدولة الفلسطينية؛ يمكن في هذه الحالة فقط أن أقول واثقًا إننا على المسار الصحيح مهما كانت الصعوبات والمعوقات، ودون ذلك سنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة. وكلمة أخيرة أقولها: “دعونا هذه المرة نجرب ونتحرك ونجتهد، ثم نرى نتائج كل هذا الجهد، والتي من المؤكد أنها سوف تكون -بإذن الله- إيجابية”.
*نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية .