مشاهدات من غــزة

حجم الخط

بقلم د. مصطفى البرغوثي

 

ما من مكان مثل غزة الصامدة التي نتواجد فيها اليوم، يمكن أن يقدم الأدلة القاطعة على الفشل الاسرائيلي في الجولة الأخيرة من معركة الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والعودة والكرامة.
فبعد أحد عشر يوماً من الهجوم العسكري بأحدث الطائرات الحربية والمدافع والدبابات والسفن العسكرية فشلت حكومة إسرائيل في تحقيق أهدافها، وخرجت غزة شامخة، ظافرة، صامدة، ومفعمة بالشعور بالعزيمة والكرامة.
وواصلت القدس والضفة وفلسطينيو الداخل في أراضي 1948، المعركة التي ارتدت طابع الانتفاضة الشعبية الموحدة بصورة غير مسبوقة منذ زمن طويل، دفاعاً عن المسجد الأقصى والشيخ جراح وسلوان في وجه التطهير العرقي والتمييز العنصري.
حاول نتنياهو وجيشه أن يغطيا فشلهما العسكري في تدمير الأنفاق وإيقاف الصواريخ واغتيال قادة المقاومة، بشن حملة انتقامية ضد المدنيين الفلسطينيين كانت حصيلتها ما يزيد على 255 شهيداً في قطاع غزة و31 شهيداً في القدس والضفة وشهيدان في الداخل الفلسطيني.
كما شنوا هجوماً مدمراً على بيوت المدنيين والأبراج السكنية ومكاتب الإعلام والصحافة والحقوا الدمار ب”24″ مركزاً صحياً ومقر وزارة الصحة وست مستشفيات ودمروا وزارات العمل والرعاية الاجتماعية، وشبكات الكهرباء والمياه والمجاري وعشرات الشوارع والطرق الرئيسة.
استخدموا صواريخ وقذائف بالأطنان دون سابق إنذار، وقصفوا بمدفعيتهم الهوجاء البيوت، وأطلقوا الرصاص الحي في القدس والضفة على المتظاهرين العزل، بالإضافة إلى الرصاص المعدني والقنابل الصاعقة وقنابل الغاز.
وبقيت غزة صامدة، وبقيت القدس والضفة منتفضة، وفوجئ حكام إسرائيل بنهوض لا سابق له من فلسطينيي يافا وحيفا وعكا والناصرة والجليل والمثلث والنقب وفي مقدمتهم اللد الباسلة.
زرت في مستشفى الشفاء الجرحى المصابين وعدد كبير منهم يعاني من إصابات بالغة الخطورة، وتحدثت مع ابن الطبيب الشهيد أيمن أبو عوف وهو ما زال طفلاً، يقترب من سن الفتوة، وشرح لي كيف قصف بيتهم دون إنذار بأربعة صواريخ إسرائيلية الواحد تلو الأخر، فاستشهد والده الطبيب ووالدته وأخيه وأخته وجده وجدته، ووجد نفسه وحيدا تحت ركام البيت، يعاني كابوساً استمر عشر ساعات حتى استطاعت فرق الإنقاذ أن تصل اليه.
ورأينا كيف كافحت فرق الدفاع المدني بإمكانياتها المحدودة لإخراج المحاصرين من تحت الأنقاض، وأجهزتها محدودة للغاية وقديمة أحدثها استلمته عام 1996، أي قبل ربع قرن، ولا يسمح الحصار الإسرائيلي لها بالحصول على معدات جديدة.
لكم أن تتخيلوا شعور رجل أو امرأة أو طفل محاصر تحت الأنقاض يصرخ طالباً للعون والانقاذ والمسعفين عاجزون عن الوصول إليه.
في دير البلح التقيت بجد الطفلة الشهيدة إيمان حجو التي استشهدت برصاص الجيش الإسرائيلي عام 2001، ولم يتجاوز عمرها حينها الشهرين، وانتشرت صورتها بالقذيفة التي اخترقت صدرها، وبعد عشرين عاماً عاش هذا الجد ليرى بيته يقصف ويدمر دماراً كاملاً.
والتقيت بإبن شهيد في مخيم المغازي استشهد والده وعمره أربعة أعوام خلال الانتفاضة الثانية، وعاش مع والدته وجمع من تعبها وعرق جبينه ما يكفي لبناء شقة متواضعة كان ينوي الزواج فيها، لتأتي الطائرات الاسرائيلية وتدمرها عن بكرة أبيها وتطيح بأحلامه في بناء عائلة.
“255”شهيداً حصيلة العدوان الهمجي في غزة، ومن ضمنهم “67”طفلا و “40” إمرأة، كما أبادت طائرات وصواريخ إسرائيل اثنا عشر عائلة وشطبتها من السجل المدني.
وأضاف لهم الاحتلال “30”شهيداً في القدس والضفة وشهيدين في الداخل أحدهما من مدينة اللد والآخر من أم الفحم. وأضيف لهم اليوم، الشهيد زكريا حمايل في بلدة بيتا قرب نابلس، أصابه الجيش الإسرائيلي بالرصاص الحي وهو يتظاهر.
وبالاضافة لذلك أصاب الاحتلال “1900” جريح في غزة و “3” آلآف و”100″ في القدس والضفة، ولم ينكسر شعب فلسطين.
أما بلديات القطاع وخاصة بلدية غزة فعملت على مدار الساعة وتحت القصف على إصلاح كل طريق نسفتها طائرات الاحتلال التي كانت تحدث فيها حفراً يصل عمقها الى “15” متراً، ومع توقف القصف لم يبق طريق واحد لم يتم إصلاحه ليصبح صالحاً للسير.
أطباء المستشفيات الفلسطينيين عالجوا بمهارة فائقة مئات الجرحى وأجروا آلاف العمليات تحت القصف ودون انتظام للكهرباء وأنقذوا حياتهم رغم نقص الأدوية والمعدات.
ومع توقف القصف انتشر في شوارع القطاع آلاف المتطوعين الشباب يزيلون الركام وينظفون الشوارع، ويزورون البيوت المصابة ويمدون لأهلها العون والمساعدة.
وعندما قصفت طائرات الاحتلال مركز فحص الكورونا الوحيد في قطاع غزة، تم نقل خدماته خلال ساعات إلى عيادات جمعية الاغاثة الطبية، وواصلت فرق رعاية مرضى الكورونا عملها.
حوالي”100″ ألف مواطن أجبروا على مغادرة بيوتهم بسبب القصف الاسرائيلي، ولجأوا إلى مدارس وكالة الغوث، فاندفعت المؤسسات والجمعيات لإسناد احتياجاتهم.
وعندما توقف اطلاق النار في الساعة الثانية فجرا خرج قطاع غزة عن بكرة أبيه وكل مدن الضفة والقدس وأهل الداخل في مسيرات شعبية تحتفل رغم عظمة التضحيات بالنصر على الاحتلال ووحشيته.
نظرت عبر نافذة غرفتي في غزة ورأيت مئات الشباب يسبحون في بحر غزة وآلاف الناس يروحون عن أنفسهم على شاطئ البحر، وانتشرت صورة المقاومين الذين يتحدون الاحتلال بالظهور علناً، ورأيت وجوه عشرات الصحفيين الأجانب مليئة بالدهشة مما سمعوه من سكان غزة من شعور بالعزيمة والكرامة والفخر بعد كل ما لمسوا آثاره من معاناة، ولسان حالهم يقول:” هذا شعب لم ولن يهزم، ولا يمكن إلا أن ينتصر”.