مثلما هي كل القوى التي تؤدي أدواراً على ساحات السياسة أو الفعل، ولا يكون عندها شيء راسخ أو نهائي، وتكون خياراتها مفتوحة ومضطرة إلى التعاطي مع معطيات الأمر الواقع؛ فإن حركة حماس الفلسطينية تنطبق عليها هذه الحقيقة نفسها، بل إن القوى الأخرى، التي تتغير مع توالي المراحل بتأثير هذه المعطيات، ربما تكون في حال أفضل من حال حماس، بحكم اضطرار الأخيرة إلى الأخذ بمقاربات ملتبسة أو متداخلة، في الوقت نفسه. فهي من حيث المبدأ، حركة مقاومة، ومن حيث التفصيل، هي الجناح العسكري لجماعة الإخوان في فلسطين.
ولم يكن سوى هذا المدخل، الذي سيجعل “الجماعة” تجد لها موضعاً في المشهد الفلسطيني، لاسيما وأن “الأخونة” بعد الإجهاز عليها تنظيمياً وسياسياً في مصر، وعلى مر الحقب؛ قد أصبحت مصنفّة في وعي أجيال متعاقبة، باعتبارها ـ من جهة ـ حليفة أنظمة تقليدية مرتبطة بالغرب الذي يساند إسرائيل، ومن جهة أخرى، لم تكن جزءاً من مشروع الكفاح الفلسطيني المسلح، الذي انطلق في العام 1965.
ولا يغيب عن الذهن، أن مظلومية الفلسطينيين التي تفاقمت عبر العقود، أنتجت نوعاً من التشدد لدى الأجيال. بالتالي لم تكن “الجماعة” من حيث كونها حزباً أيديولوجياً، ستجد لها دوراً في إطار الخصوصية الفلسطينية، بغير تحول جديد، يذهب ـ وإن كان متأخراً ـ إلى مصاف الكفاح الوطني الفلسطيني. فبغير ذلك لا خيار آخر، طالما أن العالمين العربي والإسلامي، يسلطان الضوء على الكفاح الفلسطيني، على النحو الذي من شأنه إحراج الحلقة الفلسطينية من “الجماعة”. فقد ظلت جماعة “الإخوان” على مر العقود، تسعى إلى إعادة تنظيم صفوفها الحزبية، بعد سلسلة الضربات التي تلقتها، وثابرت على بناء اقتصادها، وإعادة بناء تنظيمها، انطلاقا من مطارح انتشارها في الإقليم، وفي بعض مواضع الساحة الدولية، كبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة.
كان المطلب الثاني لجماعة الإخوان بعد أن تسلحت في غزة؛ أن تستغل هُزال السلطة وفشل مشروع “أوسلو” للتسوية، لكي تستحوذ على جغرافيا سياسية ولو في حجم قطاع غزة. وقد شجع على ذلك في حينه تعافي التنظيم في مصر المجاورة، ما جعل الحسبة تقوم على أن التنظيم القوي في مصر، سيكون له رديفه العسكري في الجغرافيا السياسية على الحدود، وسيكون هذا الرديف، ملبياً لعاطفة الإسلاميين الجدد، الذين ينظرون للمقاومة، أياً كانت أيديولوجيتها. فعندما ينهض تنظيم إسلامي، سيكون هو الذي يجمع الأوراق على الطاولة، وسيصبح أيقونة الحزب بكل هيكليته العابرة للحدود.
هكذا بدأت الأمور، قبل أن تتحرك حماس في غزة، للانقضاض على السلطة، مستغلة ضعفها وترهلها. وعندما “أنجزت” تلك المهمة، وقف أحد مؤسسي حماس، وهو الإخواني المخضرم عبدالفتاح دُخان، أمام حشد كبير في حفل نظمته حماس، لكي يلقن الحاضرين بيعة أو قسماً لترديده، وهو ليس قَسماً لحركة تحرر فلسطينية، وإنما لجماعة الإخوان قاطبةً!
وفي الحقيقة، سرعان ما اتضح أن هذا الخيار سيظل صعباً. ذلك لأن أهم ما يحتاجه الفلسطينيون، هو النأي بالنفس عن الصراعات على الحكم في الإقليم. فالمسألة المحورية للجماعة ليست إلا نوعاً من الصراع السياسي أو الحزبي، بينما الفلسطينيون لديهم مهمة تحرر وطني تستقطب كل ألوان الطيف الذي لا شأن له، كله، بالنزاعات الداخلية في الدول العربية.
قبلها، كان انسداد الأفق السياسي وانهيار مشروع التسوية في فلسطين سبباً في التحول الفلسطيني إلى وضع وخيار جديدين. فبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في يوليو العام 2000 عاد الرئيس ياسر عرفات إلى غزة، وفي نيته إطلاق مقاومة مسلحة تضطر رُعاة العملية السلمية إلى التواصل معه من جديد، لكي تساعده على التغلب على عقبات التفاوض. لكن حساباته أو توقعاته لم تكن إلا من باب التفاؤل.
أطلق الرجل كل الخيول من عقالها، وبدأت عملية المقاومة المسلحة من جديد. عندئذٍ، بمعايير السياسة، نشأت شرعيتان دستوريتان على أرض واحدة ضيقة: الأولى، الشرعية الدستورية التي كان عرفات قد بدأ بتأسيسها، وهذه ظاهرة قانونية. والثانية “الشرعية الثورية” حسب وصف القانون الدستوري لها، وهي ليست ظاهرة قانونية، وإنما ظاهرة تاريخية استثنائية، تنتسب إلى جنس حركات التحرر. لكنّ شرعيتين، على أرض واحدة، من شأنهما تخليق الصدام، بين سلطة تسلحت لحفظ النظام، وحزب تسلح لكي يمارس العمل المسلح، حتى ولو كان ميزان القوى يرجح كثيرا لصالح الطرف الآخر. ومعلوم أن حركات التحرر، التي يقاتل فيها الضعيف القوي، تستفيد من جغرافيا شاسعة لبلدانها، ومن جبال وغابات وأنهار، بينما غزة ليست إلا مهجعٍ للسكان يضيق بهم.
عندما بدأت منهجية حماس تخطو على طريق العمل المسلح، وفي ذهنها أن تلتزم السمع والطاعة إخوانياً؛ لم تكن في وضع يسمح لها برفع سقف النيران. كانت هناك هدنة ينتهي أجلها في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 2008 وكانت تُسمع تصريحات بأن فتح النيران سيكون ليلة انتهاء أجل الهدنة، وكأن حماس، وقتها، كانت هي الطرف الذي أمهل إسرائيل مدة لكي تعيش، وحان موعد إحالتها إلى الاندثار.
ويذكر كاتب هذه السطور، أنه في لقاء مطول عبر شاشة تلفزيون فلسطين؛ ناشد حماس أن تتريث، فلا تجدد الهدنة ولا تفتح النار. لكن النار فُتحت، وفي اليوم التالي بدأ القصف لطابور الصباح للشرطة الفلسطينية، فخسرت الشرطة عدداً كبيراً من ضباطها، على رأسهم قائدها اللواء توفيق جبر، واستمر القتال فهدمت الألوف من المنازل والمدارس والمساجد وبعض الأحياء بأكملها، على مدى ثلاثة أسابيع منذ شهر يناير 2009 ووصلت القوات الإسرائيلية إلى بوابة مستشفى الشفاء على الطرف الغربي لغزة المحاذي للبحر.
بعد تلك الحرب بدأ استخدام منطق الهدنة والتهدئة، وتداعى هذا المنطق، فأصبح مطلباً. ثم بدأ الاقتراب غير المباشر من السياسة. لكن ذلك الاقتراب، لم يصل إلى مستوى وضع النقاط على الحروف حتى مايو 2011 عندما جرى الاتفاق في القاهرة بين الفصائل، على الأخذ بما يسمى “وثيقة الأسرى”، وهي أكثر الاتفاقات تفصيلاً، واشتملت على الموافقة الحمساوية الضمنية على تسوية وفق حل الدولتين، حسب رؤية الجانب الفلسطيني لهذه التسوية.
في المسار السياسي بعدئذٍ، ومع تفاقم العلاقة بين مصر وحماس، ومعاناة غزة تالياً، وجدت حماس نفسها مضطرة إلى الإعلان أن لا علاقة تنظيمية لها بجماعة “الإخوان”. وبدا أن ضرورات التسلح، دفعت إلى علاقة مستقرة ونوعية مع إيران، وهنا أصبح التنظيم السُني السلفي أو الأصولي، يرى في إيران سنداً تسليحياً، ولا يرى فيها ـ بحكم أيديولوجيته ـ بلداً يحكمه نظام يثابر على مد نفوذه، وتشييع السنة مثلما يحدث الآن في مناطق إدلب وحماة في سوريا.
وكانت تلك المفارقة، على مستوى الأيديولوجيا، واحدة من رزمة تناقضات تلت، ليس بين حماس ونفسها من حيث كونها ذات منحى أيديولوجي، وإنما كذلك بين مواقف سائر الإخوان وموقفها من نظام الحكم في مصر، بعد أن تفاهمت على حفظ الحدود، ومساعدة الأمن المصري على إنهاء الإرهاب في سيناء.
ولم يكن الإخوان أنفسهم أطيب حالاً، فقد لجأ قادتهم إلى قطر وتركيا، وهما دولتان لهما علاقات وطيدة مع إسرائيل، بينما خطاب الإخوان الإعلامي، ينشغل ليل نهار، في الحديث عن تواطؤ أنظمة أخرى مع إسرائيل. وفي الحقيقة تداعت الأمور أكثر فأكثر، حتى أصبحت الغرائب تكمن في التفاصيل، ما يعني أن الأمور تتجه إلى منهجية جديدة، فيها قدر أكبر من السياسة، وستكون الأسابيع أو الشهور المقبلة، هي الكاشفة.
الإيقاع الآن، يوحي بأن قادة حماس، أو رئيس مكتبها السياسي، يريد جولات عربية، ظاهرها طلب الحصاد السياسي بعد الحرب الأخيرة، وجوهرها هو الحرص على البقاء في المشهد السياسي بشروطه، مع محاولة الإخوان الإمساك بالدفة، طالما أن اتصالات الوسطاء الأخيرة، بدت مشوبة بالسياسة!