طالما كانت الضرائب شأنا وطنيا بحتا، وإجراءً سياديا حصريا لا تناقشه الدول خارج حدودها. وما حصل في لندن من اتفاق بين مجموعة الدول السبع (جي 7) على توحيد معدل الضريبة على الشركات العملاقة العابرة للحدود، كان بحق اتفاقا تاريخيا، استغرق التوصل إليه عشرات السنين، وما كان ليتحقق لولا وجود إدارة أميركية متعاونة مع الشركاء ومتفهمة للتطورات الجوهرية الحاصلة في العالم.
ومن الحوافز التي دفعت الدول السبع إلى التوصل إلى هذا الاتفاق، هو حاجتها الماسة إلى الأموال بسبب الخسائر المالية الكبيرة التي تكبدتها، سواء بالإنفاق على الضرورات الصحية الناتجة عن جائحة كورونا، أو في فقدان الإيرادات الضريبية، نتيجة تقلص النشاطات الاقتصادية، بسبب القيود التي حتمتها الجائحة، وكذلك حاجة الحكومات لمساعدة الشركات والأعمال والعاطلين عن العمل خلال الأزمة.
غير أن الموافقة الأميركية كانت حاسمة في التوصل إلى هذا الاتفاق التاريخي، لأن معظم الشركات التي ستخضع للضريبة، هي شركات أميركية، خصوصا الشركات التقنية العملاقة، مثل غوغل وأمازون وفيسبوك ومايكروسوفت، التي استفادت كثيرا من العولمة أولا، ومن القيود التي فرضتها جائحة كورونا على النشاطات الاجتماعية والنقل وحركة الاقتصاد العامة، الأمر الذي ألجأ الجميع، مواطنين وشركات، إلى الاستعانة بخدماتها.
لقد حدد الاتفاق الضريبة المفروضة على الشركات العملاقة بـ 15% كحد أدنى، لكنه حدد الشركات المشمولة بتلك التي تحقق هامشا ربحيا يفوق 10%. وعبارة "كحد أدنى" الواردة في الاتفاق مقصودة، وهي تعني أن الضريبة يمكن أن ترتفع مستقبلا خصوصا وأنها متدنية جدا، ودون المعدل السائد في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الذي يتراوح بين 33% في البرتغال و15% في ليتوانيا. هناك ثلاث دول فقط في المنظمة تفرض معدلا ضريبيا أقل وهي أيرلندا (12.5%) وتشيلي (11%) وهنغاريا (10%).
وزير المال البريطاني، ريشي سوناك، وصف الاتفاق بأنه "يليق بالعصر الرقمي"، بينما قال وزير المال الألماني أولاف شولز إن فيه "أخبارا جيدة للعدالة الضريبية وأخبارا سيئة للملاذات الضريبية". أما وزيرة الخزانة الأميركية، جانت يَلِن، فقد وصفته بالتاريخي وقالت إنه "سوف ينهي السباق إلى القعر فيما يتعلق بضريبة الشركات وسوف يضمن العدالة للطبقتين الوسطى والعاملة في الولايات المتحدة والعالم".
مشكلة الضرائب على الشركات العملاقة قديمة، ولم تستطع الدول الصناعية الكبرى أن تحلها منفردة، لذلك اضطرت في النهاية إلى الاتفاق فيما بينها كي تواجه الشركات العابرة للحدود التي أصبحت أقوى من العديد من الدول، وأخذت تحقق أرباحا طائلة بلغت مئات المليارات، بسبب استغلالها للثغرات والتناقضات في القوانين، وحصولها على تسهيلات ضريبية كبيرة من الدول الراغبة في جذب الاستثمارات.
وخلال العقود المنصرمة، كانت الشركات العملاقة تفتح لها فروعا، أو ما يسمى بـ"الشركات القشرية" أو (shell companies) في البلدان المنخفضة الضرائب وفي الملاذات الضريبية العالمية المعروفة مثل جزر كايمان في البحر الكاريبي وجزر جيرزي وغيرنزي وآيل أوف مان في بريطانيا، بالإضافة إلى سويسرا، وتقوم بإعلان ضرائبها هناك، كي تدفع معدل الضريبة المنخفض في تلك الدول أو الملاذات، رغم أن أرباحها قد تحققت في دول أخرى. وبذلك تمكنت الشركات العملاقة العابرة للحدود من تكديس الأموال عبر التهرب من دفع الضرائب، بل وحتى مخالفة القوانين في بعض الأحيان، خصوصا عندما بدأت تقدم الرُشى للمسؤولين الفاسدين في الدول النامية مقابل الحصول على العقود، وتحت مسميات عديدة تسمح بها قوانين الدول المضيفة مثل "مصاريف مفيدة"!
الاتفاق الأخير سوف يعالج هذا الخلل ويلزم الشركات بأن تدفع الضرائب في الدول التي تعمل فيها وتحقق الأرباح منها، وليس في الدول التي تعلن ضرائبها فيها. ومن مزايا الاتفاق أنه فرض معدلا ضريبيا موحدا في الدول المختلفة كي يمنع التسابق في تقديم الإعفاءات الضريبية لاستقطاب الشركات إليها.
وتعتبر هذه النسبة متدنية مقارنة مع ما تفرضه الدول الصناعية على الأعمال والشركات الصغيرة. في بريطانيا مثلا، تبلغ ضريبة الشركات 19% وتخطط الحكومة البريطانية لرفعها إلى 25% في عام 2023. وفي الولايات المتحدة، تبلغ ضريبة الشركات 25%. لكن دولا أخرى كأيرلندا تفرض معدلا ضريبيا منخفضا لا يتجاوز (12.5%)، لذلك استقطبت العديد من نشاطات الشركات العالمية إليها. لكن هذا الاتفاق سيلغي هذه الميزة مستقبلا، مما سيدفعها لأن تبحث عن محفزات أخرى لاستقطاب الاستثمارات.
لكن وزير المال الأيرلندي، باسكال دونهيو قال إن "أي اتفاق يجب أن يأخذ ينظر الاعتبار البلدان الصغيرة والكبيرة، المتقدمة والنامية"، مضيفا أن بلده سوف يبقى يدعو إلى التنافس المشروع في مجال الضرائب.
المرحلة المقبلة لهذا الاتفاق بين الدول السبع الكبرى (جي 7) هي أنه سوف يخضع للتفاوض بين الدول الصناعية العشرين (جي 20) والتي تضم الصين والبرازيل وروسيا، في اجتماعها المقبل في إيطاليا في يوليو المقبل. وفي المرحلة الثالثة سوف يناقش الاتفاق ويتفق عليه من جديد، مع بعض التفاصيل، ضمن مجموعة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الثماني والثلاثين.
ومازال اللاعبون الكبار قد أقروا الاتفاق، ومازالت الولايات المتحدة قد وافقت عليه، وهي المتضرر الأكبر منه، فإن الدول الاخرى سوف تكون أقل تضررا، بل كثير منها سوف يستفيد باعتبار أن فرض الضرائب على الشركات العملاقة سوف يعيد توزيع الثروة التي تكدست في عدد محدود من رجال الأعمال والمساهمين في هذه الشركات، بينما حُرمت منها الحكومات ومن ورائها مئات الملايين من الناس.
وتعترف شركة فيسبوك بأن الاتفاق الجديد سيعني أنها ستدفع ضرائب أعلى لكنها اعتبرته خطوة مهمة نحو الاستقرار في قطاع الأعمال والصناعة وتعزيز الثقة في نظام الضرائب، بينما أعلنت غوغل بأنها تدعم بقوة استمرار الدول في تطوير النظام الضريبي العالمي، وأنها "تأمل أن تستمر دول العالم في العمل معا لضمان التوصل إلى اتفاق قابل للاستمرار". أما أمازون فقد قالت، حسب وكالة رويترز، إن "عملية تقودها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سوف تأتي بحلول تساعد على استقرار النظام الضريبي العالمي".
مازال الاتفاق في مراحله الأولى ويحتاج إلى المزيد من التفاصيل حول آليات جمع الضرائب والشركات المشمولة بهذه الضريبة، ويعتقد بأنها تشمل مئة شركة عملاقة تقريبا، بالإضافة إلى موافقات من البرلمانات الوطنية للدول المعنية، والتي يجب أن تعدِّل قوانينها الحالية التي تفرض معدلا أعلى للضرائب. بعض الدول، خصوصا الولايات المتحدة، قد تواجه صعوبات في تمرير هذه الضريبة.
ورغم المصاعب والحاجة إلى المزيد من المفاوضات وأخذ مصالح الدول الأخرى المؤثرة في نظر الاعتبار، فإن هذا الاتفاق يعني أن الولايات المتحدة قد عادت من جديد لتقود العالم، بعد أن انعزلت وانكفأت وتخاصمت حتى مع حلفائها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. إنه حراك مطلوب لتصحيح الأوضاع المضطربة في عالم يعاني من مشاكل معقدة ونزاعات وتنافسات كثيرة.
لكن الذي تأمله دول العالم أن تنخرط الولايات المتحدة في حوار معها وألا تستغل موقعها الاقتصادي والسياسي والعلمي والعسكري للانفراد في صناعة القرار، وهذا ما أكدته وزيرة الخزانة جانت يلين في المؤتمر الصحفي الذي تلى إعلان الاتفاق، إذ قالت إنه يعني "إحياء لمبدأ التشاور والقرارات الجماعية ورغبة بين الدول الأعضاء في مجموعتي جي 7 وجي 20 للتعاون من أجل حل مشاكل الاقتصاد العالمي، وإيقاف السباق لخفض الضرائب الذي خلق مشكلة للعديد من الدول لعقود من الزمن".
يبدو أن إدارة بايدن مصممة على استعادة قوة الولايات المتحدة عبر سلوك طريق التشاور والتعاون مع الحلفاء، وبطريقة ربما تفوق الإدارات السابقة، حنكة وسرعة وعمقا. لكن التحدي الأكبر الذي سيواجهها سيكون تحديا داخليا، فالديمقراطيون وإن كانوا مسيطرين رسميا على مجلسي الكونغرس، (الشيوخ والنواب)، لكن هذه السيطرة قلقة لأنها ليست كبيرة وإن قرر بضعة أعضاء ديمقراطيين أن يعترضوا على قراراتها فإن ذلك سيعيق تقدمها. لكن روح التعاون لتجاوز الأزمات سوف تتغلب على الأكثر.