الحدث الفلسطيني - معركة غزة..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

بعد تناول ثلاثة أبعاد «للحدث الفلسطيني» في أيار الماضي، نصل، اليوم، إلى ما يتصل منه بدلالات معركة غزة. فعلى مدار عدة أيام تمكنت «حماس»، وفصائل أُخرى في غزة، من قصف مدن وبلدات داخل الخط الأخضر بالصواريخ، التي وصل بعضها إلى القدس وتل أبيب. وهذه حقيقة يصعب تجاهلها لا من حيث ما تركت من أثر في نفوس الفلسطينيين وحسب، بل ولما لها من تداعيات سياسية، أيضاً.
وهذا كله لن يكون مفهوماً بشكل صحيح ما لم نضع في الاعتبار إحساس الفلسطينيين بانسداد الأفق والخذلان، خاصة في أجواء «سلام إبراهيم»، التي ارتسمت في أفقها أكثر من طعنة غادرة في الظهر. لذا، لم يكن من المُستغرب أن يسارع أشخاص، من انتماءات ومشارب شتى، إلى عقد مقارنة بين معركة الكرامة في العام 1968، ومعركة غزة في العام 2021. وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على النظر إلى هوان السنوات القليلة الماضية كمعادل موضوعي لما أعقب هزيمة حزيران من هوان.
ولم تتأخر دلالة المقارنة بين معركتين، وقعتا في زمنين مختلفين، في توليد مقارنات وتأويلات سياسية. فقد بدت القيادة الفلسطينية وكأنها تشبه قيادة الشقيري لمنظمة التحرير بعد الهزيمة، وبدت «حماس» وكأنها تعيد سيرة «فتح»، التي تمكنت نتيجة معركة الكرامة من الصعود إلى قيادة المنظمة، والحركة الوطنية الفلسطينية. ويبدو من السلوك السياسي والدبلوماسي لـ»حماس»، ونبرة المنابر الإعلامية الداعمة والمؤيدة، أن نتائج معركة غزة الأخيرة أضفت طاقة جديدة على طموح قديم وَسَمَ سلوك «حماس» منذ ظهورها في أواخر الثمانينيات.
ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يُقال. فلا يمكن لمقارنات كهذه أن تكون منطقية إلا إذا تجاهلت الفرق بين ما كان عليه الحال في العام 1968، وما هو عليه الآن. كانت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من ذرى الحرب الباردة في العالم، ففي أوائل ذلك العقد انتصرت الثورة الجزائرية المسلّحة، وفي أواسط العقد التالي سقطت سايغون في يد الفيتكونغ، وهرب الأميركيون عن سطح السفارة هناك. وسُمعت أصداء الثورة الطلابية في أربعة أركان الأرض، وكانت راية اليسار مكللة بالجلال وعالية.
كان شعار «الكفاح المسلّح» عنوان ذلك الزمن، ومصدر إلهامه الكبير. في العام 1968 كان هناك عبد الناصر، وحرب الاستنزاف المجيدة على جبهة قناة السويس، وفي سيناء. كان مثّلت الحواضر المصرية والشامية والعراقية ينهض، من تحت أنقاض الهزيمة، رافعاً بندقية، وبه ومعه وفيه ومنه نهضت الحركة الوطنية الفلسطينية كجزء من حركة التحرر القومي العربية والعالمية.
بعد معركة الكرامة، اصطحب جمال عبد الناصر، ياسر عرفات في طائرة خاصة، وزيارة سرية إلى موسكو، لتقديمه إلى السوفيات. تماهى في ذلك الزمن الشعار مع حامليه، وتماهى الشعار وحاملوه مع لغة ومصالح قوى فاعلة في الإقليم والعالم، وجاء هذا كله في مكان وزمان مناسبَين. فأين نحن من هذا كله الآن، فقد تغيّر العالم كثيراً. الحواضر حطام. ولن يتمكن نظام في الإقليم والعالم، باستثناء إيران، من التماهي مع شعارات «حماس» الجهادية، وأيديولوجيتها الإخوانية، بعدما أصبح آباء الإسلام السياسي وممولوه، في السعودية والخليج، من أكثر خصومه تشدداً، ورغبة في التبرؤ منه.
هذا لا يعني أن الأنظمة القائمة في الإقليم، والعالم، أو بعضها على الأقل، تترفّع عن فتح قنوات مع «حماس»، وتستنكف عن التعامل معها، بل وحتى المقايضة من جانب عرب وعجم، بما يخدم ويحقق مصالحهم، وطموحها القديم بالاستيلاء على منظمة التحرير. ولكن يستحيل أن يحدث هذا إلا بما ينسجم مع خصوصية المسموح والممنوع في هذا الزمن، على قاعدة الاحتواء المقبولة عربياً ودولياً، وعلى قاعدة الانخراط في «مشروع السلام»، والوساطة بينها وبين إسرائيل، على طريقة القطريين، وما يتصل بها، ويتفرّع عنها. وبهذا المعنى، لا معنى لطموح كهذا سوى استبدال أشخاص بأشخاص، واستبدال مكانة بأُخرى، مع الإبقاء على اللافتة كذخر رمزي ثمين.
ولا إمكانية، في الواقع، للإفلات من قواعد المقايضة والاحتواء إلا بالرهان على الزمن. بمعنى أن تتمكن ظاهرة غزة المُسلّحة، بكل ما يسمُها من خصوصيات، من كسب الرأي العام العربي والعالمي بطريقة تجعل منه حامياً لها، وضاغطاً على صنّاع السياسة في بلدان مختلفة، ناهيك عن ممارسة دور المُحرّض لإحداث تحوّلات «ثورية» في فلسطين والعالم العربي.
وهذا احتمال ينطوي على مصاعب يصعب تذليها، ناهيك عن الثمن المروّع الذي دفعته، وتدفعه، غزّة نتيجة أربع حروب، والحصار الذي حوّلها إلى أكبر سجن في العالم، منذ سيطرت عليها «حماس»، في مثل هذه الأيام، قبل 14 عاماً مضت. وعلاوة عليه، تدهورت مكانة المسألة الفلسطينية، فعلاً، خلال الفترة نفسها، في الإقليم والعالم لأسباب مختلفة يصعب ألا نعثر بينها، وعلى رأسها أحياناً، على ما يُعرف في لغة السياسة المُتداولة بـ «الانقسام».
هذه كلها أسئلة وتساؤلات لا غنى عنها في معرض عقد المقارنات بين حدثين وقعا في زمانَين مختلفين، وفي تجاهلها ما لا يُسهم في قراءة الواقع كما هو، وبما هو. فمعركة «حزب الله» في جنوب لبنان 2006، ومعركة غزة 2021، أكبر حجماً، بمقاييس كثيرة، من معركة الكرامة، ولكن نتائج معركة الكرامة (التي شاركت فيها، إلى جانب الفدائيين، مدفعية الجيش الأردني، أيضاً)، بالمعنى السياسي وحصادها، على خارطة العالم العربي، والعالم، كانت أكبر بكثير لأنها جاءت في ظروف فلسطينية وعربية ودولية مواتية.